لا أعرف عن ماذا أكتب، لأن ما أريد قوله أكبر من اللغة، وأثقل من الحروف. أأكتب عن رجالٍ رحلوا وبقوا، أم عن فكرةٍ لا تموت؟ أأكتب عن قادةٍ غابوا فازدادت حضورًا، أم عن شعبٍ قرر—في زمن الانكسار العام—أن لا يكون عابرًا في التاريخ؟
ما يحدث في فلسطين ليس حدثًا سياسيًا عابرًا، بل امتحانٌ مفتوح للإنسانية جمعاء. هناك، تُقاس قيمة الإنسان لا بما يملكه، بل بما يصونه. وتُقاس الأمم لا بما تقوله، بل بما تصمت عنه. وفي هذا الامتحان الطويل، تَقدّم الفلسطيني—الإنسان والمقاوم معًا—ليحمل العبء الذي تخلّى عنه كثيرون.
المقاومة هنا ليست نزوة غضب، ولا عشق موت، بل غريزة حياة. هي ردّ النفس السليمة حين يُفرض عليها الذل. هي فعل الإنسان حين يُدفع إلى الحافة، فيختار الوقوف لا السقوط. من لا يفهم المقاومة بوصفها دفاعًا عن المعنى، لن يفهم فلسطين أبدًا.
ما زلنا نسمع عن طفلٍ يحتفظ بمفتاح بيتٍ لم يره، لا لأنه يعيش وهمًا، بل لأنه يعيش حقيقة مؤجلة. وما زالت الجدّات يفتحن الذاكرة كما تُفتح النوافذ: برتقال حيفا، محطات القطار، الأغاني الشعبية، التفاصيل الصغيرة التي لم تستطع الجرافات اقتلاعها. الذاكرة في فلسطين ليست حنينًا، بل سلاح بقاء.
وفي السجون، حيث يُراد للإنسان أن يُكسر، تُصنع عزائم من نوعٍ آخر. خلف الجدران الباردة، يُعاد تعريف الحرية، ويُصقل الصبر، ويخرج الأسير—حين يخرج—أكثر قدرة على بثّ الحياة في غيره. عندها فقط نخجل من أسئلتنا الصغيرة، ونسأل السؤال الكبير: ماذا قدّمنا؟ وهل ما زلنا نستحق أن نسمّي أنفسنا أحرارًا؟
غزة، تحديدًا، ليست مكانًا على الخريطة، بل حالة إنسانية قصوى. هناك، يتقدّم الوجدان لأن العقل وحده لا يكفي. هناك، تُختبر قدرة الإنسان على أن يبقى إنسانًا وسط الخراب. لا بطولة زائفة، ولا ادّعاء قداسة، بل بشرٌ يعرفون أنهم يدفعون الثمن لأنهم لم يساوموا على كرامتهم.
أيقنت أن الحب—حين يكون صادقًا—يصنع المعجزات. من أحبّ فلسطين، تتبّع أثرها دون أن يراها. حفظ أسماء مدنها، وتعلّم أهازيجها، وعرف زيتها وزعترها كما لو كانا من ذاكرته الشخصية. فكيف بمن وُلد فيها؟ بمن شرب من مائها، ومشى على ترابها، وزرع شجرها؟ كيف يُطلب منه أن يتخلّى؟ وكيف لا تذوبه نار العشق حتى يصير الاستعداد للتضحية أمرًا بديهيًا لا يُشرح؟
هذه الأرض ليست مجرد وطن؛ هي مخزون روحي وتاريخي للإنسانية. على أرضها وُلد المسيح، وفي قدسها نطقت الحجارة بالسلام، ومنها كان الإسراء، وإليها ارتبط العروج. على تخومها وقف موسى عليه السلام، وفيها تعانق الوحي بالتاريخ. هذه ليست سرديات دينية فحسب، بل شواهد على مكانةٍ لا يليق بها إلا السلام—سلام العدل، لا سلام القهر.
حين يخرج جيلٌ لينعى جيلًا قبله، لا يفعل ذلك ليُغلق القصة، بل ليؤكد أن الأمانة لم تسقط. أن الفكرة أكبر من الأشخاص، وأن القيم لا تُغتال بموت حامليها. هكذا تستمر القضايا العادلة: لا بالصوت الأعلى، بل بالإصرار الأطول.
فلسطين تعلّمنا أن الإنسان قد يُهزم عسكريًا، أو يُحاصر اقتصاديًا، لكنه لا يُهزم أخلاقيًا إلا إذا استسلم من الداخل. وتعلّمنا أن المقاومة ليست نقيض الإنسانية، بل آخر خطوط دفاعها. هناك، حيث يقف الفلسطيني، يُسأل العالم: هل ما زلتم بشرًا؟
فلسطين ليست قضية شعبٍ وحده، بل مرآة العالم: من نظر فيها ورأى نفسه، نجا… ومن كسرها، انكسر.
فاتنة علي_لبنان/سوريا الكبرى
