أمريكا بين نزوات نرجسية ترامب و الفوضى الخلاقة

تعيش أمريكا عملية مراجعة كبرى لسياستها الداخلية والخارجية. تتحرك فيها دوائر القرار منذ استلام ترامب مقاليد الحكم في كل الاتجاهات السياسية والاقتصادية والعسكرية وملف الصحة والهجرة وغيره.
يبقى السؤال المهم هل ما يجري هو من نزوات نرجسية ترامب ام بدايات للفوضى الخلاقة التي ستسقط امريكا؟
أم هي ضرورة لتموقعها الجديد مع الوضع الدولي المتغير؟
والسؤال الاهم هل خطة البيت الابيض قابلة للتنفيذ والنجاح ؟
يصعب الان التكهن بمدى نجاعتها في ضمان بقاء أمريكا بقوتها القديمة.
حكمت امريكا مرحلة الحرب الباردة وما بعدها بدهاء دولارها الفاقد لقيمته الاحتياطية رغم حجم ديونها الكبيرة، حتى وصلت الى الإعلان انها غير قادرة على تحمل تبعات توسعها وتكلفة تمددها وهي الآن بطور التخلي عنه دون ترك أطماعها.
فعملية التموقع الجديد لقواعدها العسكرية تكشف لنا ملفات المساحات الرمادية التي ستتحرك فيها للدفاع عن مصالحها.
إن التفوق العسكري لأمريكا لم يعد كافياً وحده لضبط النظام الدولي. واستراتيجيتها الجديدة لا تمثل قطيعة كاملة مع الماضي٬ بقدر ما تمثل التأسيس لمسار جديد أقل كلفة وأكثر نجاعة. وهذه الخطة أعدّت من زمن باراك أوباما.

كما لم تصدر وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي للعام 2025 عبثا وتسريب النص ليس إجراءً عاديًا، بل هو تمهيد لحالة انتقال تعيشها الولايات المتحدة داخل النظام الدولي وهي من افرازات الواقع الداخلي .

إن الوثيقة الصادرة عن البيت الأبيض تقدم نفسها كمقاربة براغماتية بحتة، لتتحرر من ثقل الاخلاقيات وحتى القوانين الدولية ، وتعيد تعريف الأمن القومي من زاوية المصلحة المباشرة للداخل الأمريكي بوصفه نقطة الانطلاق والمرجعية لكل تطلعات الدولة. وستحتاج فيه لوقت ليتبين نجاح الخطة من عدمها ويستشرف بعض الخبراء أن المؤشرات ستظهر في الربع الاول من سنة 2026.
مع ما يتحضر، تتآكل موارد أمريكا الاقتصادية نسبياً ويكبر حجم دينها ويتأزم وضعها الداخلي ويمكن الإشارة الى ملفات مهمة وحالة ترقب صعبة في مراكز القرار التي تتحكم في الداخل الامريكي واي خلل فيها سينعكس بالسلب على البقية ليؤدي الى ازمة مالية كبرى ويذهب البعض ان هذا ما ينتظره الفيدرالي الامريكي دون البوح به لانه جزء من الامن القومي.

  1. الملف الأول: الائتمان الخاص أصبح الخطر الأكبر ويصنف كالقنبلة الموقوتة لانه سوق بقيمة 2 تريليون دولار يعمل في الظل دون رقابة، والبنك المركزي يعترف الآن أنه فقد السيطرة عليه. وضمانات حجم بطاقات الائتمان في حال عجز عدم الدفع ستنعكس سلبا وبشكل مباشر على شركات التأمين احد الاعمدة الاساسية في النظام الراسمالي القائم.
  2. الملف الثاني: العقارات التجارية وملفها اقل خطورة لكن الأرقام مرعبة: معدل تعثر سندات المكاتب (CMBS) وصل إلى 11.76% في أكتوبر 2025 وشغور مكاتب مانهاتن بنسبة 22.6% . ووراء هذا الاستحقاق قروض بقيمة تقارب 2 تريليون دولار يجب ان تدفع اقساطها في 2026. والبنوك التي تتحمل علئ مابين 38-48% من قروضها تعيش عجز يتجاوز 300% من رأس مالها. بمعنى مفلسة فعلياً وتنتظر فقط الاعلان.
  3. الملف الثالث ديون شركات الذكاء الاصطناعي لتمويل البنية التحتية للبحوث التي اعلن عنها ترامب بضخ 250 مليار دولار لتطويرها تعمل ضمن حلقة مفرغة بمعنى مايكروسوفت التي تستثمر في OpenAI.تسحب من رسوم سحابة (Azure) المملوكة لميكروسوفت.وأوراكل تقترض لبناء مراكز بيانات لـ OpenAI (التي تخسر المليارات). والجميع يسجل “إيرادات” من أموال تدور داخليا ، بينما المشتري لا يدفع ما يكفي لتغطية ديون هذه الشركات. وإذا تعثرت شركة واحدة (مثل CoreWeave المثقلة بالديون)، سينهار الهرم كله ناهيك عن المنافسة مع الشركات الصينية فمجرد تسويق لبرنامج صيني واكتساحه الاسواق سيعكس بشكل مباشر على مقدرة هذه الشركات.
  4. الملف الرابع: عملية الأصول الأميركية التي أصبح الجميع يرفض شرائها وفخ الين الياباني في أزمة 2024 (التي أسقطت الأسواق) كانت مجرد تجربة. بنك التسويات الدولية (BIS) يؤكد أن تجارة الـ Carry Trade “انفكت جزئياً فقط”.مع استمرار بنك اليابان في رفع الفائدة التي وصلت 0.75% وتتجه لـ 1%، وبالتالي فإن هامش الربح الذي كان يحمي تريليونات الدولارات اصبح يتآكل. أي ان مفاجأة ستأتي من طوكيو في الربع الأول من سنة 2026 قد تشعل موجة بيع قسري عالمية للأصول الأمريكية وان كان البعض يستبعدها من اليابان في الوقت الراهن بعد التصويت على السياسة الدفاعية لطوكيو وتخصيص 53 مليار دولار سيكون لأمريكا حصة الأسد منها.
  5. الملف الخامس: نفاد السيولة برنامج (Reverse Repo) الذي كان يحوي 2.5 تريليون دولار ويمتص الصدمات، انهار إلى 342 مليار دولار فقط. وكان يعتبر صمام أمان الفيدرالي حيث لم يعد لديه وسادة مالية كافية لامتصاص أي صدمة جديدة. اما طباعة الدولار فقد اصبحت سراً و ان أعلن الفيدرالي بتاريخ 10 ديسمبر عن برنامج “شراء إدارة الاحتياطي” بقيمة 40 مليار دولار شهرياً. لأنه كان مضطرا لتوسيع ميزانيته لامتصاص ديون لا يستطيع السوق الخاص هضمها. وهذا ليس تعديلاً تقنياً؛ بل “اعترافا بالفشل” وتأجيلا لاعلان حقيقة ما يجري.
  6. الملف السادس: الديون السيادية حيث وصلت فوائدها الى 970 مليار دولار وهي أكثر من ميزانية وزارة الحرب الامريكية. بمعنى 19 سنتاً من كل دولار ضرائب يذهب فائدة للدائنين قبل دفع الراوتب. ومع عملية الانكشاف لهشاشة الدولار الحاصلة إلتجئت العديد من الاطراف الى الذهب لانه أضمن وتتوقع مصادر عليمة أن يرتفع الى اعلى مستوى له في سنة 2026.
  7. الملف السابع: سياسات التعريفات الجديدة تعيد التضخم وتمنع الفيدرالي من خفض الفائدة بجرأة لإنقاذ العقارات و البنوك. ويبقى الفيدرالي محاصرا بين “ركود البنوك” و”نار التضخم” وتهاوي العقارات مقابل بورصة الأوهام التي تحسن التلاعب بالقيمة وبالبتكوين .
  8. الملف الثامن مستوى البطالة، حيث خسر الاقتصاد الحقيقي 983,000 وظيفة بدوام كامل في شهرين كما تشير الأرقام الخاصة بتعدد الوظائف أن حوالي 9.3 مليون أمريكي يعملون في وظيفتين أو أكثر. أما الوظائف الجزئية فقد قفزت إلى 29.5 مليون.
    حسن فضلاوي