في 26 ديسمبر 2025م أعلنت “حكومة” نتنياهو الصهيونية اعترافها الرسمي بما يسمى إقليم “أرض الصومال” بوصفه “دولة مستقلة ذات سيادة”، مع الشروع في إقامة علاقات دبلوماسية كاملة ضمن مشروع التطبيع (اتفاقات إبراهام)، في سابقة هي الأولى يُقْدِم عليها الكيان الصهيوني تجاه كيان انفصالي لم يحظَ بأي اعتراف أممي منذ إعلانه الانفصال عن الدولة الصومالية عام 1991م.

يمثّل هذا القرار تحدياً واضحاً للإجماع الدولي الداعم لوحدة الصومال. ويتزامن الاعتراف مع التطورات شرق اليمن وسعي “المجلس الانتقالي” إلى الانفصال، المجلس الذي يرحب بالتطبيع مع الصهيوني مقابل الاعتراف بانفصال جنوب اليمن.

ينطلق هذا التقدير من سؤال مركزي: هل يمثّل الاعتراف الإسرائيلي مجرّد خطوة سياسية رمزية ذات طابع دعائي، أم أنه حلقة تأسيسية في مسار إعادة تموضع استراتيجي يستهدف تحويل الضفة الإفريقية المقابلة لليمن إلى عمق أمني–استخباراتي معادٍ ضمن سياق التنافس المحموم المفتوح في البحر الأحمر وباب المندب؟ وضمن الاستراتيجيات الأمنية البحرية المعادية استراتيجية “الناتو” الجديدة الصادرة هذا الشهر (ديسمبر 2025م)، ومساعي بريطانيا وأمريكا في ما يُسمى بالأمن البحري (سبتمبر 2025م)، وضمن سياسة نقل “إسرائيل” من منطقة عمليات القيادة الأوروبية للقوات الأمريكية إلى منطقة عمليات القيادة المركزية (2021م).

السياق الجيوسياسي والإقليمي للتطوّر
جاء الاعتراف الإسرائيلي في لحظة إقليمية تتسم بتغيّر نوعي في طبيعة الصراع في البحر الأحمر، وموازين القوى، حيث انتقلت المواجهة من نمط التواجد الغربي في القرن الأفريقي واستعراض القوة دون اشتباك، إلى نمط ردع متبادل فرضته القدرات البحرية اليمنية وما نتج عنها من تعطيل لحركة السفن المرتبطة بالعدو الإسرائيلي أو الداعمة له. هذا التحول أضعف قدرة القوى الغربية والإسرائيلية على إدارة الصراع من داخل المسرح البحري نفسه، ورفَع كلفةَ التمركز المباشر فيه.

في هذا السياق، برز اتجاه أمريكي صهيوني بريطاني مضاد يسعى إلى نقل مركز الثقل من البحر إلى البر المقابل لليمن، أي إلى الضفة الأفريقية لخليج عدن، بما يسمح بإعادة بناء منظومة مراقبة ورصد ودعم لوجستي أقل كلفة سياسياً وعسكرياً، وأكثر قابلية للتدرج والتخفي، ويُعدّ إقليم “أرض الصومال” -بموقعه الجغرافي المطلّ مباشرة على باب المندب، وبحكم وضعه القانوني الهش- مرشحاً مثالياً للعب هذا الدور.

يتقاطع هذا المسار مع تنافس حاد في القرن الأفريقي على الموانئ والممرات البرية، حيث تسعى إثيوبيا -كدولة حبيسة- إلى كسر اختناقها الجغرافي عبر منفذ بحري، بينما تعمل الإمارات على استكمال شبكة موانئ تمتد من الخليج إلى البحر الأحمر، بما ينسجم مع تصور جيو–اقتصادي طويل الأمد للسيطرة على سلاسل الإمداد، كما يتزامن ذلك مع توترات داخلية في المحافظات المحتلة من اليمن (خصوصاً في حضرموت)، تعكس تصدعاً داخل معسكر العدوان نفسه، ما يدفع بعض أطرافه إلى البحث عن ساحات بديلة لتعويض تآكل نفوذها داخل الجغرافيا اليمنية.

ردود الأفعال الإقليمية والدولية ودلالاتها
قوبل الاعتراف الإسرائيلي برفض إقليمي صريح تقوده مصر والصومال وجيبوتي والسعودية، وفلسطين، والجامعة العربية، والاتحاد الأفريقي، ومنظمة التعاون الإسلامي، حيث جرى توصيف الخطوة أنها مساس مباشر بسيادة الصومال ووحدة أراضيه، وتهديد للاستقرار في القرن الأفريقي والبحر الأحمر. هذا الرفض لم يكن مجرد تمسك بمبدأ قانوني، بل عبّر عن إدراك استراتيجي بأن فتح الباب أمام الاعتراف بالكيانات الانفصالية يهدد بتفكيك منظومة الدول الساحلية المطلة على أحد أهم الممرات البحرية في العالم.

بالنسبة لمصر يرتبط الرفض بمخاوف بعيدة المدى تتعلق بإمكانية تمدد نفوذ إسرائيلي–إثيوبي في جنوب البحر الأحمر، بما يشكل ضغطاً غير مباشر على قناة السويس وحرية الملاحة المصرية في أوقات السلم والحرب، ومن حيث العقيدة العسكرية -ورغم اتفاق كامب ديفيد- مازال الجيش المصري يرى في الكيان الصهيوني التهديد الأول للأمن القومي المصري.

أما تركيا فتنظر إلى الخطوة -من خلال رفضها- أنها اختراق لتوازنات القرن الإفريقي التي عملت خلال السنوات الماضية على ترسيخها لصالح أنقرة عبر دعم الدولة الصومالية المركزية، فالموقف التركي نابع من التنافس مع الكيان في التمدد السياسي، بخلاف الموقف العربي والأفريقي الذي يرى في الخطوة تهديداً.

في المقابل، رحّبت سلطة “أرض الصومال” بالاعتراف الإسرائيلي واعتبرته “لحظة تاريخية”، في محاولة لتوظيفه كرافعة سياسية لكسر العزلة، فيما دافعت “حكومة” نتنياهو الصهيونية عن القرار بوصفه “اعترافاً بواقع قائم”، في خطاب يهدف إلى تطبيع فكرة التعامل مع الكيانات غير المعترف بها متى ما خدمت المصالح الأمنية الصهيونية.

وزعمت أن التطبيع لتبادل الخبرات في الجوانب التقنية والزراعية دون تصريح علني بالمسار العسكري والأمني العدواني.

البعد الوظيفي للاعتراف الإسرائيلي
من منظور تحليلي، لا تكمن خطورة الاعتراف الإسرائيلي في قيمته القانونية، التي تظل ضعيفة ومعزولة دولياً، بل في وظيفته السياسية والأمنية المحتملة؛ فالاعتراف يوفر غطاءً أولياً لتطوير علاقات مؤسسية واسعة في الظاهر اقتصادية وتقنية وهذه الجوانب مهمة للكيان، وفي مسار غير معلن تعاون أمني واستخباراتي تحت عناوين فضفاضة مثل “حماية الملاحة” أو “مكافحة الإرهاب والقرصنة”.

هذا الغطاء يسمح بتحويل البنية التحتية المدنية في “أرض الصومال” -ولا سيما ميناء بربرة- إلى أصول مزدوجة الاستخدام، بما يشمل: أنظمة مراقبة ورادار، مرافق دعم لوجستي، ومنصات تشغيل للمسيّرات، من دون الحاجة إلى الإعلان عن قواعد عسكرية تقليدية. وبهذا المعنى يشكل الاعتراف خطوة تأسيسية لإعادة هندسة البيئة الأمنية المحيطة باليمن من الخارج على نحو عدواني، بدلاً من مواجهته مباشرة في البحر.

الانعكاسات الاستراتيجية على اليمن
بالنسبة لليمن، يمثّل هذا التطور تهديداً غير مباشر لكنه بنيوي، فهو لا يفرض واقعاً عسكرياً جديداً فورياً، لكنه يؤسس لمسار تطويق استراتيجي طويل الأمد، يسعى إلى تقليص عمق اليمن البحري، وكشف تحركاته، وإضعاف عنصر المفاجأة الذي شكّل أحد مصادر قوته خلال المرحلة الماضية.

كما يحمل الاعتراف بعداً جيو–اقتصادياً لا يقل خطورة، إذ يفتح الباب أمام تحويل موانئ القرن الإفريقي إلى بدائل -مدعومة غربياً- للموانئ اليمنية، في إطار سياسة عزل اقتصادي تدريجي تستهدف إفراغ الموقع الجغرافي اليمني من قيمته الاستراتيجية، ويضاف إلى ذلك خطر استغلال الفراغ القانوني في “أرض الصومال” لتوسيع شبكات التهريب باتجاه اليمن، سواء في ما يتعلق بالسلاح أو الوقود أو البشر، بما يفاقم التحديات الأمنية والاقتصادية الداخلية.

اتجاهات التطور والسيناريوهات المرجّحة
في المدى القصير، يُرجّح أن يبقى الاعتراف في إطاره السياسي الرمزي، بفعل الرفض الإقليمي وغياب أي اعتراف دولي موازٍ. إلا أن المدى المتوسط يظل مفتوحاً على سيناريو تأسيس تدريجي للعلاقات الأمنية عبر اتفاقات تقنية أو بحرية تُستخدم كغطاء لبناء وجود استخباراتي دائم. أما سيناريو التحول إلى قاعدة عسكرية صريحة معلنة فيظل أقل ترجيحاً في المدى المنظور، لكنه يبقى خياراً مؤجلاً مرتبطاً بتغير موازين الردع في البحر الأحمر.

تقدير الموقف العام
يمكن تقدير أن اعتراف كيان “إسرائيل” بكيان “أرض الصومال” لا يشكّل تحولاً استراتيجياً فورياً في ميزان القوى، لكنه يمثل خطوة تأسيسية في مسار أوسع يهدف إلى إعادة تشكيل البيئة الأمنية في خليج عدن وباب المندب على حساب اليمن. خطورة الخطوة لا تكمن في الحدث ذاته، بل في مسارها التراكمي، وفي محاولتها نقل الصراع من المواجهة البحرية المكلِّفة مع اليمن إلى تطويق جغرافي–استخباراتي طويل الأمد عبر الضفة الإفريقية.

في المقابل، فإن اتساع دائرة الرفض الإقليمي، وتعارض مصالح أطراف هذا المسار أنفسهم، يجعل المشروع قابلاً للاحتواء والإحباط، غير أن ذلك يظل مشروطاً بوعي صنعاء المبكر بطبيعة التهديد، والتعامل معه بوصفه مؤشراً استراتيجياً على إعادة تموضع الخصوم، لا خطوة دبلوماسية معزولة أو عابرة.

ختاماً
في الخلاصة، تبرز أمام صنعاء مقاربة مركّبة تجمع بين الاستثمار السياسي الهادئ، وضبط أدوات الردع، وتعزيز الاستباق التحليلي، إذ يمثّل الرفض الإقليمي الصريح لاعتراف “إسرائيل” بـ”أرض الصومال”، ولا سيما من مصر والصومال وجيبوتي وتركيا، فرصة سياسية موضوعية يمكن البناء عليها من دون الانزلاق إلى منطق التحالفات، وذلك عبر خطاب عقلاني يرسّخ أن الموقف اليمني يندرج ضمن حماية استقرار البحر الأحمر ووحدة الدول الساحلية، بما يحدّ من محاولات تصوير صنعاء كعامل تهديد.

وفي الوقت نفسه، يقتضي هذا المسار الحفاظ على الردع البحري اليمني بوصفه أداة استراتيجية عالية الكلفة على الخصوم، وتجنّب استنزافه في مواجهات، إذ تبلغ هذه القوة أقصى فعاليتها حين تُدار كورقة توازن لا كأداة استنزاف مفتوح. ويتكامل ذلك مع ضرورة بناء منظومة إنذار مبكر خاصة بالقرن الأفريقي، تقوم على متابعة منهجية لمؤشرات البناء الأمني الصهيوني، من تحركات عسكرية غير معلنة، وعقود تقنية ذات طابع أمني، وتوسعة بنى تحتية مزدوجة الاستخدام، وزيارات وفود أمنية، بما يتيح لصنعاء ممارسة الاستباق التحليلي ومنع تحوّل المسار التراكمي الجاري إلى واقع أمني مكتمل يصعب احتواؤه لاحقاً.

موقع أنصار الله . تحليل | أنس القاضي