استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة: ماذا تعني بالنسبة للعالم وإلينا؟

د.إبراهيم علوش

ما زالت وثيقة الأمن القومي الأمريكي التي نشرتها إدارة ترامب في 4/12/2025 تُثير عاصفةً من التحليلات على ضفتي الأطلسي، تتخللها أمواجٌ عالية من النقد، بسبب تحوّلات جوهرية في توجهاتها مقارنةً باستراتيجيات الأمن القومي للإدارات السابقة، ومنها وثيقة الأمن القومي التي أصدرتها إدارة ترامب السابقة سنة 2017.

منذ نهاية الحرب الباردة، درج إصدار استراتيجيات الأمن القومي في الولايات المتحدة، التي صدر أولها في عهد بوش الأب، سنة 1991 تحديداً. وكانت الإدارات الأمريكية تعتمد في تحديد استراتيجياتها العامة من قبلُ على دراسات غير متاحة للجمهور يجريها مجلس الأمن القومي الأمريكي، أو حلقات الخبراء المرتبطين بالبيت الأبيض.

وفي سنة 1986 مرر الكونغرس قانوناً، هو The Goldwater-Nichols Act، يفرض على الإدارة الأمريكية نشر استراتيجية أمنها القومي علناً، وسنوياً، لفتح حوارٍ عامٍ بشأن الأولويات، عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، وبالتالي بشأن المخصصات التي تستحق أن تنالها تلك الأولويات في الموازنة العامة.

لكنْ تأخر إصدار وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الأولى حتى نهاية عهد بوش الأب إذاً، في 1991، نفترض لأسباب أمنية، في ظل الحرب الباردة، جرى تحديد “التحول المناخي” فيها تهديداً استراتيجياً.

لم تُصدِر إدارة كلينتون بعدها تقريرها حتى عام 1994، نتيجة خلافات حادة بشأن تحديد التهديدات والأولويات الاستراتيجية بعد نهاية الحرب الباردة.

التزم الرئيس كلينتون بعدها بإصدار التقرير سنوياً، لكنّ الإدارات اللاحقة اكتفت بإصدار وثيقة استراتيجية أمن قومي واحدة كل أربع سنوات، وأصبح ذلك عُرفاً منذ عهد بوش الابن، على الرغم من أنه عرفٌ يخالف قانوناً محدداً للكونغرس.

تنبع أهمية وثيقة استراتيجية الأمن القومي التي تنشرها كل إدارة أمريكية جديدة إذاً من كونها تكشف، بصورةٍ عامة، أين ستضع تلك الإدارة ثقلها، خلف أي أولويات، وبأي أدوات، وبأي درجة من الإلحاح. فاستراتيجية الأمن القومي تهدف لتحديد التهديدات الكبرى والموارد المتاحة لاحتوائها والمخطط العام لمواجهتها، أما المخططات التنفيذية التفصيلية فتبقى بعيدة عن الأعين حتى تبدأ معالمها بالتجلي ميدانياً أو على السطح السياسي. ولا تقتصر استراتيجية الأمن القومي على السياسة الخارجية، لكنّ الأخيرة محور رئيس فيها طبعاً.

ثبّتت وثيقة الأمن القومي التي أصدرتها إدارة بوش الابن سنة 2002 مثلاً مبدأ “الحرب الاستباقية” والخطوات الأمريكية الأحادية، وتوجه فرض “الديموقراطية” والأسواق الحرة، أي “تغيير الأنظمة”، بالقوة.

أما استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها إدارة أوباما سنة 2010، فتضمنت تأكيداً على تنسيق الخطوات مع الحلفاء والشركاء بعيداً عن الخطوات الإحادية، كما تضمنت التزاماً أكيداً بنشر الديموقراطية وحقوق الإنسان. لكنها احتوت نقطة خطيرة، في أدوات تحقيق ذلك، لم تنل حظها من الاهتمام حتى جاء “الربيع العربي”.

كانت تلك النقطة تبني الإدارة الأمريكية استراتيجية “الدبلوماسية العامة” التي تتوجه بموجبها إلى عامة العرب والمسلمين مباشرة، من خلال برامج ودورات وجمعيات تهدف إلى “تثقيفهم” بالديموقراطية والعمل العام.

كما أن أوباما أزال صفة “الإسلامي” عن الإرهـ.ـاب في الوثيقة ذاتها، فاتحاً الباب أمام تعاون إدارته مع بعض الأجنحة من الإسلاميين.

وفي استراتيجية الأمن القومي التي نشرتها إدارة ترامب الأولى، سنة 2017، أُزيل التحول المناخي من قائمة التهديدات القومية، في سياق اعتناق ترامب لمصالح شركات الطاقة، وكانت تلك قصة بحد ذاتها، لأن التحول المناخي كتهديد تبنته إدارة بوش الأب، الجمهورية، سنة 1991.

على الرغم من ذلك، أكدت وثيقة إدارة ترامب الأولى سنة 2017 على عنوان العداء لروسيا والصين كقوى “تحريفية” عالمياً، ومعاداة “الدول المارقة” مثل كوريا الديموقراطية وإيران، ومواجهة “منظمات التهديد العابر للحدود، وخصوصاً المجموعات الإرهـ.ـابية الجهـ.ـادية”.

أي أن إدارة ترامب الأولى حافظت في التوجه العام على استمرارية ما لتوجهات الإدارات السابقة، وبقي أثر الدولة العميقة فيها واضحاً، مع بعض التعديلات المهمة.

أما وثيقة الأمن القومي الأخيرة الصادرة عن إدارة ترامب الثانية هذه السنة فلا تذكر كوريا الشمالية حتى مرة واحدة، ولم تَعُدْ روسيا تهديداً، بل مشكلة سوء فهم أوروبية فحسب، ولم تطرح الصين عدواً، بل منافساً اقتصادياً لا بد من تجنب المواجهة العسكرية معه.

ولم تُشِرْ الوثيقة الجديدة إلى “الإرهـ.ـاب الإسلامي”، إلا في ملاحظة عابرة عن ضرورة التنبه إلى صعوده مجدداً في أجزاء من إفريقيا، مع التأكيد على تجنب أي حضور أو التزام أمريكي طويل المدى في مواجهته.

أما إيران، فجرت إزالتها من قائمة التهديدات الخطرة في التقرير الجديد، بعد الإشارة إلى أنها “جرى إضعافها بشدة”، في حين عدتها إدارة ترامب سنة 2017 تهديداً مركزياً.

تقرير استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة مثقل بالأيديولوجيا اليمينية الشعبوية من أوله إلى آخره، وتمكن قراءته كسجال مع النخب الليبرالية في الولايات المتحدة وأوروبا والعالم الغربي عموماً. فهو في بعض فقراته بيان ضد العولمة والتجارة الحرة والانزياح عن القيم التقليدية وإطار الدولة القومية.

وهو يضع “الهجرة الجماعية” إلى الولايات المتحدة تهديداً أول، أمنياً وثقافياً ومجتمعياً، ويجعل استعادة السيطرة على الحدود الأمريكية، وتعزيز أدوات تلك السيطرة، أول ما يجدر القيام به للدفاع عن الأمن القومي الأمريكي.

وهو تقرير يؤنب النخب الأوروبية الحاكمة نتيجة تساهلها مع الهجرة، الأمر الذي ينذر بمحو الهوية الأوروبية حضارياً، حتى أن أوروبا، خلال 20 عاماً أو أقل، لن يعود من الممكن التعرف عليها، بحسب التقرير.

كما أنه يهاجم الاتحاد الأوروبي كبيروقراطية ما فوق قومية تنال من سيادة الدول القومية، وتتعدى على الحريات السياسية بذرائع ليبرالية، في سياق موقف عام يناهض المؤسسات الدولية وتجاوزاتها على صلاحيات الدول القومية.

ويعُدُ التقرير “تصحيح مسار أوروبا” هدفاً أمريكياً. ويعُدُ الدفاع عن الديموقراطية وحرية التعبير وصعود الحس القومي في الدول الأوروبية، في مواجهة النخب الليبرالية والاتحاد الأوروبي، جزءاً من عملية تصحيح المسار، ويتبنى دعم المـ.ـقـ.ـاومة (اليمينية الشعبوية) في أوروبا لمسار القارة الحالي.

يهاجم التقرير النخب الأوروبية الحاكمة لأنها تفتقد للثقة بالنفس إزاء روسيا، على الرغم من أن ميزان القوى يميل لمصلحتها بكل المقاييس، بحسب التقرير، ما عدا السلاح النووي. وينتقد التقرير موقف النخب الأوروبية من المسألة الأوكرانية، ويعده إشكالياً ومستنداً إلى توقعات غير واقعية.

أما المطلوب أمريكياً في أوروبا، من منظور إدارة ترامب، فهو إيقاف حرب أوكرانيا، وإرساء شروط الاستقرار الاستراتيجي في الكتلة الأوراسية، والحد من خطر نشوب صراع بين روسيا والدول الأوروبية.

ما من شكٍ إذاً في أن التقرير الجديد مثّل تحولاً كبيراً في موقف الإدارات الأمريكية التقليدي من روسيا منذ بدأت تستعيد قوتها، كأنه هدية عيد ميلاد متأخرة للرئيس بوتين (7 أكتوبر إياه)، وأنه وضَعَ التناقض الأيديولوجي مع النخب الليبرالية على ضفتي الأطلسي قبل التناقض الجغرافي-السياسي مع روسيا كقوة قومية صاعدة.

لكنْ، لا يجوز أن يلتبس ذلك الموقف على المراقب الحصيف، لأن التقرير يؤكد ضرورة تقوية الدول الأوروبية، بإخراجها من ليبراليتها، وبالعودة إلى هوياتها القومية، كي تمنع أي قوة خارجية معادية من السيطرة عليها، ولا ننسى مثلاً أثر صعود ألمانيا قومياً على روسيا في الحرب العالمية الثانية؛ ولأن مسايرة روسيا في أوكرانيا جزءٌ من استراتيجية ترامب لتفكيك “بريكس” وفك عرى التحالف الروسي-الصيني، كما وَثَّقْتُ في مادة “قراءة في أبعاد اللعبة الدولية من سوريا إلى أوكرانيا”.

لا يخرج ذلك عن مشروع تفكيك “بريكس” إذاً، وكان مما جاءت به وثيقة الأمن القومي الجديدة، في القسم المتعلق بمنطقة آسيا-المحيط الهادئ، والتي أعاد البنتاغون تسميتها “الهادئ-الهندي” سنة 2018، بروز موضوعة تطوير العلاقة مع الهند كمحور رئيس، إلى جانب المنافسة التكنولوجية، في مواجهة الصين. وإن مسألة تجنيد الهند أمريكياً في مواجهة الصين هي نقطة سبق التوسع فيها في مادة أخرى.

الحبكة الجديدة في توجهات إدارة ترامب بشأن آسيا، هي ضرورة إنشاء حلف عسكري إقليمي يضم اليابان وكوريا الجنوبية، تحت مظلة أمريكية طبعاً، من أجل مواجهة الصين. ويتضمن ذلك زيادة إنفاقهما العسكري، وانخراطهما مباشرة في المنظومة العسكرية المقابلة للصين في بحر الصين الجنوبي.

ويصعب فهم تصريحات رئيسة وزراء اليابان الجديدة، ساناي تاكاتشي، ذات الطابع “الحربجي”، بشأن تايوان، خارج هذا السياق.

على الرغم من ذلك، أوضحت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة أن مشكلتها مع الصين لا تنبع من طبيعة نظامها السياسي، بل من ممارساتها التجارية، وخطورة اختراقاتها للاقتصاد الأمريكي على استقلاليته. لكنّ إبقاء المنافسة مع الصين في الحيز الاقتصادي، بحسب التقرير، يتطلب استمرار التفوق على الصين عسكرياً، وتعزيز الردع، وعسكرة التحالفات، وإبقاء قوة أمريكية وازنة في بحر الصين الجنوبي.

صيغ الموقف الأمريكي إزاء الصين بحرصٍ وحذرٍ شديدين، فهو غير تصعيدي، ويؤكد على تجنب المواجهة المسلحة، لكنه لن يسمح للصين بالهيمنة في بحر الصين الجنوبي أو في الاقتصاد الدولي. الجديد آسيوياً هو تجنيد الحلفاء والشركاء لأداء دورٍ إقليميٍ في تلك المعادلة، كحلٍ وسطٍ بين النزعة الانعزالية لليمين الشعبوي في الولايات المتحدة، وبين حرص الدولة العميقة الأمريكية على تثبيت هيمنتها عالمياً.

ويُقرأ تجاهل كوريا الديموقراطية تماماً في الوثيقة الجديدة في سياق التركيز على الصين، وعدم تصعيد العداوات على جبهات أخرى أكثر مما يجب.

يتكرر عنوان الاعتماد على الحلفاء والشركاء في أوروبا، كما جاء حرفياً: “دعم حلفائنا في الحفاظ على حرية أوروبا وأمنها”، أي أن الولايات المتحدة ليست معنية بتحمل العبء هنا، بل هناك نقد لتوسع الناتو في الوثيقة.

ولا ينطبق مبدأ ترك مسألة الأمن والاستقرار للحلفاء تماماً في ما يتعلق بأمريكا الوسطى والجنوبية، والتي نالت القسط الأكبر من الاهتمام في وثيقة الأمن القومي الأمريكي الجديدة، تحت عنوان “لازمة ترامب لمبدأ مونرو”.

نفهم من تلك “اللازمة” أن النصف الغربي للكرة الأرضية يحتل الأولوية الأولى في السياسة الخارجية الأمريكية، وأنه مطوّب كلياً باسم الإدارة الأمريكية. كما أن إدارة ترامب ستعيد الانتشار فيه عسكرياً باتجاه مناطق التهديد، وستعمل على تأمين حرية الوصول إلى المواقع الرئيسة كافةً، وعلى إبعاد المنافسين الأجانب عنه ومنعهم من تملك أصول استراتيجية فيه، والمقصود هو الصين طبعاً.

وسيجري تجنيد الحلفاء في نصف الكرة الأرضية الغربي أيضاً ليؤدوا دوراً إقليمياً خارج حدود دولهم، بحسب الوثيقة، لكنّ الإدارة الأمريكية ستتولى أمره مباشرةً وبدرجة أكبر، مقارنةً بأوروبا، أو حتى بآسيا.

أعان الله الرفاق في أمريكا الوسطى والجنوبية، فالوثيقة تطرح مشروع استعمار اقتصادي فيها فعلياً، ووصاية عسكرية وأمنية شاملة عليها، ومواجهة مباشرة فيها ومن أجلها. وهذا سيقلل الضغط الأمريكي المباشر على المناطق الأخرى، ومنها منطقتنا، والتي يفترض أن تزيد فيها أدوار القوى الإقليمية الحليفة للولايات المتحدة.

الطريف أن وثيقة الأمن القومي الجديدة، على الرغم من كل الصفحات التي أفردتها لأمريكا الوسطى والجنوبية، والأولوية الأولى التي منحتها إياها، فإنها لم تذكر المنطقة باسمها قط، بل “النصف الغربي للكرة الأرضية” فقط، ما عدا إشارة واحدة إلى بعض “الحكومات الأمريكية اللاتينية” المرتبطة بمصالح أجنبية، وإلا فلا أمريكا خارج الولايات المتحدة، والباقي حديقتها الخلفية، في حالة استعلاء واضحة.

تعمدت الوثيقة الجديدة إعطاء منطقتنا، والتي سمّاها الاستعمار الأوروبي “الشرق الأوسط”، منزلة متدنية من الأهمية كأولوية رابعة، قبل إفريقيا في المنزلة الأخيرة. وجرت تغطية استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في منطقتنا في صفحة ونصف الصفحة، من أصل 30، في مقابل نصف الصفحة فقط لإفريقيا.

كما جرى الإيضاح، منذ البداية، أن منطقتنا نالت أكثر من حظها من الاهتمام الأمريكي على مدى نصف قرن وأن ذلك لا يجوز أن يستمر، أولاً لأنها لم تعد أهم مصدر للطاقة عالمياً، وثانياً لأنها لم تعد ميدان منافسة بين القوى العظمى، بل باتت ساحة مناورات للقوى الكبرى تمتلك فيها الولايات المتحدة المكانة الأكثر تفضيلاً.

يعزز تدهور منطقتنا منزلةً في أولويات السياسة الأمريكية، بحسب الوثيقة، أن إطلاق العنان لقطاع الطاقة الأمريكي سوف يقلل من أهميتها أكثر، وأن إيران جرى إضعافها بشدة، وأن جبهة غزة تمت تهدئتها، وأن داعمي حـ.ــ.ـمااس الأساسيين أضعفوا أو “ابتعدوا”، وأن سورية يجري ترتيب أمورها بالتفاهم بين الأمريكان و”الإسرائيليين” والأنظمة العربية والأتراك.

الرسالة الجوهرية التي تبثها الوثيقة للأنظمة العربية هي أن إدارة ترامب لا تتبنى توجهات الإدارات السابقة في محاولة إصلاحها ديموقراطياً، أو وعظها بشأن الشفافية وحقوق الإنسان وما شابه، وأنها لا تحاول تغيير الأنظمة، وأنها تتقبل تقاليدها والأشكال التاريخية للحكم فيها، وخصوصاً في دول الخليج.

وهي رسالة تبثها الوثيقة عالمياً، بأن العلاقات الخارجية ستحكمها المصالح الأمريكية، وبأن التعامل مع الشركاء والحلفاء سيكون بمنطق الصفقات، وبالقطعة، من دون محاولة تغيير الأنظمة أو تغيير طبيعتها.

ما عدا ذلك، فإن المطلوب هو معالجة العداء للولايات المتحدة والتهديد لأمن “إسرائيل” أيديولوجياً وعسكرياً، وتوسعة الاتفاقات الإبراهيمية إلى المزيد من البلدان في المنطقة والعالم الإسلامي، وإبقاء مضيق هرمز والبحر الأحمر مفتوحين للملاحة.

وتعد الوثيقة أن ترامب حسم اتجاه المنطقة باتجاه “السلام” والتطبيع مع العدو الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في قمة شرم الشيخ في تشرين الأول / أكتوبر الفائت.

خارج القسم المتعلق حصرياً بمنطقتنا، ورد في قسم المصالح الاستراتيجية الأمريكية 5 بنود، كان رابعها: منع أي قوة معادية من السيطرة على “الشرق الأوسط”، ونفطه وغازه، وممراته المائية الحيوية، مع تجنب “الحروب الأبدية” التي أغرقتنا في تلك المنطقة بتكاليف باهظة.

باستثناء هذه النقطة، لا يشفي القسم المتعلق بمنطقتنا في الوثيقة الغليل بتاتاً، ويترك السياسة الأمريكية إزاءها مجلّلة بالغموض.

ولعل ذلك متعمد. فالمنطقة كانت مؤخراً مصدر صداعٍ شديد لترامب نتيجة الانشقاق بشأن الموقف من “إسرائيل” واللوبي الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني وغزة في قاعدة ترامب في الحزب الجمهوري MAGA، كما أوضحت في مادة سابقة. لذلك، فإن تهميش ملف منطقتنا مهم جداً بالنسبة لترامب حالياً حفاظاً على وحدة الصف.

النقطة الأخرى الأكثر أهمية وإشكاليةً هي أن الصيغة العامة التي تتبعها الوثيقة في تفويض أدوار إقليمية للقوى الحليفة للإدارة الأمريكية في المناطق الأقل أهمية بالنسبة إليها تصطدم بعقبة كبيرة في منطقتنا، إذ إن ذلك يعني تفويض الأتراك أو العدو الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني، والفرق الكبير بين هذين من جهة، واليابان وكوريا الجنوبية في بحر الصين الجنوبي، من جهةٍ أخرى، هو وجود حالة تنافس حاد على حقول النفوذ بين المشروعين التركي والصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في منطقتنا.

وكان ترامب قد طرح فكرة إطار إقليمي تركي-سعودي-“إسرائيلي”، في سياق ملف غزة وغيره، لكن السعودية لا تقوى على إداء دور إقليمي عسكرياً خارج إطار مجلس التعاون الخليجي، كما أثبتت حرب اليمن، وإن كانت تؤدي، كما الإمارات وقطر، أدواراً إقليمية سياسياً واقتصادياً وإعلامياً.

ما يتبقى إذاً هو الدوران التركي و”الإسرائيلي”، وكلاهما يمتلك مشروعاً توسعياً يقوم على إعادة صياغة المنطقة ويصطدم بالآخر. وهذا يعيد الحاجة إلى حضور وتواجد أمريكي مباشرين إلى المربع الأول، على عكس ما يريده ترامب.

وكان مما ورد في ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية في الوثيقة أن الولايات المتحدة لن تسمح لأي أمة أن تصبح مهيمنة بصورة تهدد مصالحها، وأنها ستعمل مع الحلفاء والشركاء كي تحافظ على موازين القوى، إقليمياً ودولياً، بما يمنع ظهور خصوم مهيمنين، وأن إدارة ترامب لا تتبنى هدف الهيمنة على العالم (كما فعلت الإدارات السابقة)، لكنها يجب بالضرورة أن تمنع هيمنة غيرها عليه، وفي بعض الحالات، منع هيمنة غيرها إقليمياً.

أخيراً، وليس آخراً، من السابق لآوانه بكثير إغلاق حساب محور المـ.ـقـ.ـاومة، أو اعتبار أمر منطقتنا محسوماً باتجاه التطبيع والاندراج في الزمن الأمريكي-الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني. وكما جاء “طـ.ـوفـ.ـان الأقـ.ـصـ.ـى” مفاجئاً، وكما جاء صعود حـ.ــ.ـزب اللـ.ـه مفاجئاً، وبسالة اليمن وكفاءته مفاجئة، وغيرها كثيرٌ من المفاجآت التي تسر الصديق وتغيظ العدو، فإن منطقتنا ستبقى حبلى بمفاجآت أخرى لا يعلمها إلا الله.