هل تُحتكر المقاومة أم يُتخلّى عنها؟
فاتنة علي،لبنان/سورية الكبرى
دائماً ما يتردّد في الخطاب السياسي العربي، وخصوصاً في السياقين الفلسطيني واللبناني، اتهامٌ مفاده أن فصيلاً بعينه “احتكر المقاومة”، وأن حضوره المتقدّم أقصى الآخرين وألغى أدوارهم. يُقال ذلك عن حركة حماس في فلسطين، كما يُقال عن حزب الله في لبنان. غير أن التوقف عند هذا الادعاء دون تفكيكه عقلياً وواقعياً يُبقي النقاش أسيراً للانفعال لا للفهم. فالسؤال الجوهري ليس من تصدّر مشهد المقاومة، بل لماذا غاب أو تراجع من كان يفترض به أن يكون جزءاً منه.
المقاومة، في أصلها، ليست امتيازاً تنظيمياً ولا حكراً حزبياً، بل ردّة فعل طبيعية لكل إنسان حرّ يرفض الاحتلال والهيمنة. وهي، في الوقت ذاته، ليست شكلاً واحداً ولا مستوى واحداً. فكما أن هناك من يقاتل في الخطوط الأمامية، هناك من يقاوم سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً، بل وهناك من يخوض المعركة الأشد خطورة: معركة السردية والرواية والوعي. من هنا، فإن الانسحاب إلى الخطوط الخلفية لا يعني انتهاء الدور، إلا إذا قرر صاحبه بنفسه أن يُنهيه، ويستبدل الفعل بترداد الشكوى.
في الحالة الفلسطينية، يبدو هذا الخلل أكثر وضوحاً. فالسؤال الذي يتجاهله كثيرون عمداً هو: ماذا لو بقيت حركة فتح حركة مقاومة كما كانت في مراحلها التأسيسية؟ ماذا لو لم تنحرف القيادة الرسمية، ممثلة بمحمود عباس ومنظومة السلطة، نحو خيار التنسيق الأمني الذي بات يخدم الاحتلال بشكل مباشر؟ عندها، هل كان ممكناً أصلاً الحديث عن إقصاء حماس لفتح؟ الواقع، كما يعترف به عدد غير قليل من عقلاء فتح أنفسهم، أن ما جرى لم يكن إقصاءً بقدر ما كان انتحاراً سياسياً، حيث جرى تفريغ الحركة من مضمونها النضالي، وسُرق تاريخها الثوري لصالح مشروع سلطوي منزوع الإرادة.
وفي لبنان، تتخذ الصورة شكلاً مختلفاً يستدعي تمييزاً دقيقاً. فالقوى التي كانت حاضرة في مشهد المقاومة قبل عام 1982 ارتكبت أخطاء جسيمة في تقدير موازين القوى، وتعرّضت لخديعة سياسية دولية وإقليمية دفعتها إلى تسليم سلاحها والانسحاب من المواجهة. إلا أن هذا الانسحاب، على خطورته، لم يتحول إلى شراكة مع العدو، ولم يُنتج سلطة وظيفتها ضبط شعبها لمصلحة الاحتلال، بل بقي، في جوهره، انسحاباً خاطئاً مع احتفاظ – نظرياً على الأقل – بالموقف والمبدأ. في المقابل، فإن ما جرى في الحالة الفلسطينية الرسمية تجاوز حدود الخطأ السياسي أو سوء التقدير، ليصل إلى تحول بنيوي في الدور والوظيفة، حيث بات التنسيق الأمني جزءاً من منظومة إدارة الاحتلال لا نتيجة خديعة عابرة. وهذا الفارق الجوهري وحده كفيل بإسقاط أي مقارنة أخلاقية أو سياسية بين الحالتين.
في هذا السياق، يصبح اتهام حزب الله أو حماس بـ”احتكار المقاومة” تبسيطاً مخلّاً للواقع. فالمشهد لم يُفرغ بالقوة، بل أُفرغ بفعل قرارات سياسية اتخذها آخرون، بعضهم اختار التسوية، وبعضهم ابتلع وعوداً كاذبة، وبعضهم فضّل الراحة على المواجهة. أما من بقي في الميدان، فلا يُسأل لماذا تقدّم، بل لماذا لم يتراجع مثل غيره.
الأخطر من كل ذلك أن تكرار هذه السردية لا يخدم سوى تكريس الهزيمة النفسية، وتحويل المقاومة من فعل مفتوح إلى تهمة، ومن خيار إلى عبء. فبدلاً من مساءلة الذات عن أسباب التراجع، يُصار إلى اتهام من واصل الطريق بأنه صادر الحق العام، مع أن هذا الحق لم يُغلق بابه يوماً أمام من أراد أن يدخله من جديد.
قد لا يُرضي هذا الكلام الجميع، لكنه يرضي من يبحث عن الحقيقة بعين العقل لا بعاطفة الخصومة. فالمقاومة لا تُورَّث ولا تُحتكر، لكنها أيضاً لا تُمنَح لمن قرر التخلي عنها ثم طالب بها كحقٍ نظري. ومن أراد دوراً، فالمعركة لم تنتهِ، لكنها لا تُدار بالشعارات، بل بالاستعداد لتحمّل كلفة الخيار.
“المقاومة لا تسأل من بقي وحده في الساحة، بل تسأل من غادرها، ولا تُدين من حمل العبء، بل من اختار أن يضعه أرضاً ثم اتهم غيره بأنه حمله.”
