منذ الضغط الأميركي العسكري والسياسي والمالي لإخراج العراق من جبهة إسناد غزة ونجاح هذا الضغط ببلوغ الهدف، صار العراق في حسابات أميركا الخاصرة الرخوة في جبهات المقاومة التي يمكن تفكيك قدراتها وإضعاف المقاومة فيها وصولاً إلى محاصرتها وإخراجها من المعادلة بالمزيد من الضغط، وصار الاستثمار على علاقات واشنطن وعواصم إقليمية بشرائح عراقية عديدة لتحقيق هذا الهدف، سواء عبر الاستثمار على خصوصية كردية أو خصوصية مذهبية، أو اللعب داخل بيئة المقاومة مرّة لإضعاف الحشد الشعبي ومرة لدعوات نزع سلاح المقاومة، ومرات استخدمت العروبة عنواناً للابتعاد عن إيران، رغم أن العروبة الحقيقية بوابتها فلسطين وتجد أن إيران أقرب لها من كثير من العرب.

مثلت الانتخابات النيابية في العراق محطة فاصلة سبقتها مؤشرات تقول إنها كذلك، حيث تفكيك الإطار التنسيقي وتحجيمه هدف لتعرية قوى المقاومة من الغطاء السياسي، وكان لافتاً أن يدعو أكبر تيار شعبي في العراق إلى المقاطعة، والنتيجة المتوقعة لذلك معلومة وهي انخفاض نسبة تصويت المكوّن الطائفيّ لبيئة المقاومة، وتراجع عدد مقاعد هذه البيئة في المجلس المنتخب، كما كان لافتاً أن يقوم رئيس الحكومة الذي رشحه الإطار التنسيقي للمنصب بتشكيل لائحة مستقلة عن التحالف الذي أوصله إلى الحكم، في لحظة لا يمكن اختصار السياسة فيها بالتنافس المشروع والطموح المبرّر، ما قال بوضوح أن يداً خفية تعمل بجد لتغيير توازنات المجلس النيابي بصورة تنتهي بتحجيم قوى المقاومة ومحاصرتها.

جاءت نتائج الانتخابات العراقية عكس التوقعات، فارتفعت نسبة المشاركة في الانتخابات بدلاً من أن تنخفض رغم المقاطعة، وكان الارتفاع في بيئة المقاومة التي يفترض أن تتراجع، وزاد عدد نواب هذه البيئة بدلاً من أن ينخفض ونالت فصائل المقاومة أكثر من عدد المقاعد التي نالتها في المجلس السابق، وخسر التغييريون الذين قاموا على موجة العداء لإيران والمقاومة كل مقاعدهم الأربعين، وعاد رئيس الحكومة مع لائحته وما حصدته من مقاعد إلى الإطار للمشاركة بإعلان الكتلة الأكبر في البرلمان، وبدا أن العراقيين الذين يفترض أن ينتخبوا على إيقاع قناعة بأن قوى المقاومة خسرت الحرب ويجب أن تغادر المسرح، قرأوا الموازين بطريقة مغايرة جعلتهم يُخرجون جماعة السفارة الأميركية التي يمثلها التغييريون.

ما حدث في ضمّ حزب الله وأنصار الله إلى لوائح الإرهاب العراقية، واستمرّ لدقائق قبل أن يتحرّك رئيس الحكومة لإلغاء القرار، طرح للنقاش مدى صحة أن يكون الأمر مجرد خطأ ناتج عن السهو واعتماد لائحة مرفقة بالقرار الحكومي تتضمن مقترحاً بضم تنظيم القاعدة وداعش وحزب الله وأنصار الله وآخرين إلى لوائح الإرهاب، بدلاً من نص القرار الحكومي الذي يحصر الموافقة بداعش وتنظيم القاعدة، وهما وحدهما بين الأسماء الواردة في الملحق المدرجة على لوائح الإرهاب المعتمدة في الأمم المتحدة، وهو ما درج عليه العراق.

وفي إطار التساؤل عما إذا كان ما سُمّي بالخطأ أمراً مدبراً أم عفوياً، قرّر رئيس الحكومة فتح تحقيق بالأمر.

المعنيون بإعلان ضمّ حزب الله وأنصار الله إلى لوائح الإرهاب هم من كبار موظفي الدولة، ما يعني أنهم على مستوى من الإدراك السياسي، وخصوصاً المعايير المعتمدة من العراق لتنظيم هذه اللوائح، والمنطقي أن يلفت انتباههم أن يرد اسم تنظيمين ليسا على لوائح الأمم المتحدة، للضمّ إلى لوائح الإرهاب، وهما تنظيمان صديقان للعراق، وخصوصاً حزب الله ليس مجرد اسم تنظيم عند أي مواطن عراقي فكيف بمسؤول كبير، والغريب أن لا يثير ذلك فضول هذا المسؤول ليقوم بالاتصال بجهة معنية للاستفسار عن الأمر قبل المضي فيه قدماً، ما يرجح أن يكون الأمر مدبّراً، خصوصاً أنه في اللحظة ذاتها التي نشر القرار في الجريدة الرسمية قامت فضائية عربية معروفة بعدائها لقوى المقاومة بتنظيم حملة واستصراح ضيوف حول معنى هذا القرار وأبعاده، وعندما تمّ التصحيح بدت الخيبة في نصوص وتغطية القناة، لتبرز محاولة الإيحاء أن قرار إدراج حزب الله وانصار الله كان قراراً مدروساً من العراقيين وأن ضغوطاً خارجية أجبرت العراق على التراجع.

الرهان على أن القرار يسبب أزمة مع قوى المقاومة صحيح، والرهان أن التراجع يحرج الحكومة مع الأميركيين صحيح أيضاً، فإن غاب السعي لعدم التسبّب بأزمة مع قوى المقاومة وإن حدث الإحراج مع أميركا فربح المراهن، وإن غاب السعي لتفادي الإحراج مع أميركا وقعت الأزمة مع قوى المقاومة وربح صاحب الرهان، لذلك يصعب التصديق أن ما جرى لم يكن مدبّراً، ولم يكن للقناة التي سارعت للتطبيل والتزمير يد فيه، وقد سبق للقناة أن لعبت أدواراً استخبارية كانت السبّاقة في نشر ما يواكبها كأنها مجرد خبر جديد لا يد لها في حدوثه.

ناصر قنديل