من يقرأ ما جرى خلال الأيام الماضية يلاحظ أن الاغتيال في الضاحية الجنوبية لم يكن حدثاً منفصلاً ولا ضربة معزولة عن المشهد الإقليمي. فالقائد المستهدف كان مرتبطاً بملفات حساسة، من بينها الملف اليمني، وهو ما يجعل اختيار الهدف وتوقيته خارج إطار الصدفة تماماً.
وإذا عدنا إلى الاجتماع السري في المنامة، تتضح أولى العقد. فذلك الاجتماع لم يكن لقاءً عربياً خالصاً، بل انعقد تحت رعاية مباشرة من القيادة المركزية الأميركية، وبوجود ضباط من جيش الاحتلال داخل القاعة. هذا الحضور يغيّر طبيعة الاجتماع ويضعه في خانة التأمر — بين أطراف تعمل على خريطة مشتركة تمتد من الخليج إلى البحر الأحمر ولبنان.
وفي الأيام التي تلت الاجتماع خرجت تسريبات تتحدث عن أنّ الجبهة التالية التي تُبحث خلف الكواليس قد تكون اليمن، خصوصاً بعد ضغط المواجهة البحرية في البحر الأحمر، وصعوبة فتح جبهة مباشرة في لبنان أو غزة. وهنا يصبح اغتيال المسؤول عن ملف اليمن داخل حزب الله جزءاً من إعادة ترتيب الضغط، لا مجرد رسالة محدودة الجغرافيا.
لكن هذه الخطط اصطدمت بخلافٍ متفاقم بين السعودية والإمارات حول السودان. وهذا الخلاف أربك واشنطن التي لا تملك رفاهية فقدان انسجام حليفين أساسيين، خصوصاً أنها تستخدم قواعد إماراتية في تنفيذ ضربات داخل المنطقة، كما يحدث اليوم في الصومال، وتبحث عن خيارات مشابهة تجاه اليمن. ومع تأرجح العلاقة بين الرياض وأبوظبي، تتعطل خطوط العمل التي اعتقدت واشنطن أنها مستقرة.
ولحلّ هذه المعضلة، بدأ الحديث عن تقليص أعداد المجموعات المسلحة الموجودة في السودان، على أمل أن يساعد ذلك في خفض التوتر بين الدولتين. لكن هذا القرار يفتح سؤالاً إضافياً: إذا خرجت تلك المجموعات من السودان، فأين ستذهب؟
القراءة الأكثر تداولاً أنّ جزءاً منها قد يُوجَّه نحو اليمن، فيما يمكن إعادة جزء آخر نحو غزة في محاولة لإنتاج صدام داخلي مع عناصر المقاومة هناك. الدور الإسرائيلي في هذا السيناريو يكون في تأمين الغطاء الجوي، فيما تتحرك المجموعات على الأرض وفق احتياجات اللحظة، من الحدود السورية اللبنانية إلى اليمن وربما العراق، بحسب ما تسمح به الظروف والتوازنات.
وفي لبنان، لا تبدو البيئة مهيأة لمواجهة بين الجيش والمقاومة، لذلك تُبحث خيارات بديلة عبر المناطق الحدودية والجرود التي يصعب ضبطها بالكامل. أما في الساحة اليمنية، فهناك من يرى أن الضغط عبر أي عناصر يتم نقلها من السودان قد يُستخدم كورقة لمحاولة كسر صمود القوى المحلية هناك.
وفي الخلاصة، فإنّ الصورة التي تتجمع من هذه الخيوط ليست معجزة ولا جديدة: كل ما لم يستطع الاحتلال تحقيقه على الأرض، سواء في الجنوب اللبناني أو في غزة، يحاول البعض تعويضه عبر أدوات غير نظامية تُنقل من ساحة إلى أخرى. فالفراغ الذي تركه عجز الجيوش النظامية عن فرض وقائع جديدة، يجري ملؤه بمحاولة تحريك مجموعات يمكن استخدامها لإرباك المشهد في اليمن أو لمحاولة خلق اشتباك داخل غزة. هذه ليست قراءة مغلقة، لكنها خيط من الأحداث يدعم بعضه بعضاً: اجتماع تُشرف عليه واشنطن ويحضره ضباط من الاحتلال، اغتيال لشخصية مرتبطة بالملف اليمني، خلاف سعودي–إماراتي يضغط على خطط أميركية، ومسار واضح لنقل المجموعات المسلحة من ساحة تحتاج إلى التهدئة إلى ساحات تريد واشنطن إعادة خلط أوراقها فيها.
وبين كل هذه التفاصيل، تبقى الوقائع على الأرض هي المقياس الوحيد: من الجنوب إلى غزة إلى اليمن، هناك محاولة لإعادة هندسة المواجهة، بأدوات مختلفة، لكن بالغاية نفسها.
فاتنة علي_لبنان
