الناظر إلى خارطة إفريقيا راهنَا، يلاحظ تقاطعًا يمكن الجزم أنّه يحصل لأوّل مرّة بالشدّة التي نراها.
من ناحية، الرغبة القديمة/الجديدة من قبل الغرب الإستعماري بشقيّه الأوروبي والأمريكي في استنزاف الخيرات. وكذلك٬ والأمر لا يقلّ أهميّة البتّ، سحب البساط من تحت القوى الكبرى وحتّى المتوسطة التي تريد جميعها افتكاك ما استطاعت من هذه الخيرات وما يتبع ذلك وينتج عنه من ترسيخ قدم فوق تراب هذه القارّة الغنيّة بالثروات.
ثالثًا، شهدت القارّة خروجًا٬ بل هو طرد فرنسا من «مستعمراتها» السابقة وفقدانها عمقًا لا يمكن تقديره٬ حين يتجاوز الجانب الاقتصادي البحت، ليكون جزءا من الذات الفرنسيّة التي تعيش أزمة داخليّة حادّة، اقتصاديّة في الأساس وذات وجه سياسي بيّن من التعثّر المستمر.
من باب التذكير السياسي، سبق لفرنسا أن عاشت حالة مماثلة بل هي مطابقة للواقع الراهن، في عهد الملك شارل العاشر الذي أمر باحتلال الجزائر سنة 1830، رغبة في إلهاء الرأي العام وكذلك حلّ المشكل الاقتصادي من خلال إستعمار الدول الأخرى.
تعلم الولايات المتّحدة أنّ حربها مع الصين قادمة لا محالة وكذلك أنّ الحرب انتقلت أو هي انطلقت في ميادين أخرى. فحين تشكّل الحرب من أجل الثروات الطبيعيّة٬ أحد أهمّ وجوهها، من باب اليقين أنّ واشنطن تريد أو على الأقلّ تأمل في القدرة على تخليص ما استطاعت من ثروات القارّة السمراء. مع وجوب التذكير أنّه على المستوى الاستراتيجي، لا فوارق لدى حكّام البيت الأبيض بين فرنسا والصين مثلا.
بخصوص هذه الثروات وأهميتها الاستراتيجيّة، كنت أشرت في دراسة -نشرتها قبل سنوات- إلى معركة نفوذ قادمة حول منابع الطاقة والثروات الممتدة من جغرافيا السودان ودول الساحل الى الشمال الأفريقي٬ تمر عبر عشر دول هي السودان، مصر، ليبيا، تشاد، الجزائر، تونس٬ المغرب وموريتانيا لتصل إلى النيجر ومالي. وفي هذه الدول٬ تمتد الصحراء الكبرى على أكثر من 9 ملايين كلم مربع. وهي أكبر صحراء في العالم وحسب دراسات لمراكز متخصصة، يوجد فيها أكبر مخزون لحقول النفط والغاز في العالم بعد دول الخليج.

بعد تقسيم ليبيا وحرب السودان٬ سنشهد فصولا من معارك متحركة أخرى، سواء في مالي أو النيجر، سيُعمل على تمددها إلى دول الشمال. وسيذكرنا هذا المشهد بالفوضى والحروب القائمة التي عصفت ببعض دول الشرق الأوسط.
بقيت ثروة أخرى أكثر استراتيجية من غيرها٬ ستكون المحدّد الأكبر لجدليّة هذا الصراع وهي الطاقة الشمسيّة. حيث أنّ الصحراء الكبرى قادرة على توفير الطاقة الكهربائية الكافية لتغطية جميع حاجيات أوروبا لقرون عديدة. علمًا وأنّ المنطقة ذات المردود الأعلى تقع في صحراء الجزائر.
يعلم الغرب بكامله، أنّ زمن رسوّ بواخره على سواحل الدول الافريقيّة محملّة بالعسكر والسلاح٬ ولّى وانقضى لأمرين: الأوّل أنّ محاولة الاحتلال وفق القواعد التي تمّت السيطرة بها على المستعمرات٬ طوال القرن التاسع عشر وما قبله، ذات تكلفة أكبر من قدرة شعوبها التي لن تقبل بسقوط أبنائها قتلى٬ خدمة لمصالح دوائر المال والأعمال. ثانيا أنّ العقل الغربي المهووس دائمًا بالعلاقة بين الكلفة والمردود، بات يفضّل التعويل على «قوى محليّة» لتنفيذ مخططاته.
تأتي الجماعات الإسلامية التكفيرية المتمركزة٬ على رأس هذه القوى المحليّة ذات البعد الوظيفي. ومن أهمّها القاعدة وجبهة نصرة الإسلام التي تستغل الإنقسامات العرقية والمذهبية في منطقة الصحراء والساحل٬ لتوسع نفوذها في مالي والنيجر وتمتد إلى التوغو وغانا وبنين. بات هذا الوجود يشكل خطرا، بسلسلة تواصله مع بوكو حرام والشباب المسلم والجماعة الليبية المقاتلة وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى. وجميعها في خدمة أجندات كبرى٬ تتجاوز في أهدافها وإمكانياتها ما تدعيه هذه الحركات.
ما يحدث في مالي٬ لا يمكن فصله عن «البراديغمات الكبرى» لفهم ظاهرة تمدد هذه الحركات في العالم. لأنها ليست كيانات مستقلة، بل هي جماعات تُستعمل كأدوات من قبل قوى دولية لتحقيق أهداف جيوسياسية واستراتيجية. وهذا ما تبين بالحقائق سواء في حرب افغانستان أو سوريا. وتشير تسريبات أن البعض منهم سفّر عبر تركيا. يضاف إلى هذا٬ ما أعلن عنه البيت الأبيض٬ من تسفير لعشرات المجرمين الخطيرين إلى ليبيا٬ لجعل أفريقيا مكبّا لنفاياتهم. وواضح أنّ أطرافا مخابراتية تعمل على تأطيرهم كعصابات لضرب إستقرار المنطقة. دون أن ننسى جماعات الطوارق الممتدة في خمس دول شمال أفريقيّة وخروجها من إتفاق الجزائر الذي كان ينظم العلاقة مع بعض الفصائل.
أمّا ما يُعرف عن مالي٬ أنّها «القلب النّانض» لتحالف دول الصحراء التي تسعى للتحرر من الهيمنة الغربية والفرنسية بالخصوص، فقد جعل من هذا البلد ساحة لصراع نفوذ جديد بين الغرب والشرق ومن بابها ودارفور، فتح ملف افريقيا للعبة التوازنات الدولية الجديدة وحرب الوصول إلى مصادر الثروات الطبيعية.
من الأكيد مع سقوط العاصمة باماكو بيد هذه الجماعات، ستتدحرج الأمور إلى النيجر ولن يبقى الا التشاد. وان كان البعض يرى أنّ أحد هذه الحركات المسلحة، كاتحاد قوى المقاومة أو جبهة الوفاق من أجل التغيير، يمكن ان يلعبا هذا الدور، لربط سلسلة الإمداد لهذه الحركات وسيكون لها اثرا كبيرا على وضع دول شمال افريقيا.
إن سقوط مالي، في أيدي الجماعات المسلحة يعني «نهاية تحالف دول الصحراء» وفتح الباب أمام انهيار أمني، يشمل النيجر وبوركينا، فاسو ونيجيريا وقد أشار ترامب في الايام الماضية الى نيجيريا لمعرفته بتفاصيل الأحداث. وأهمية ثرواتها النفطية والطبيعية تمهيدا للتدخل العسكري عبر الافريكوم القوات الأمريكية المتخصصة في الشأن الأفريقي.
أما في تونس والجزائر٬ فنحن معنيون بشكل جدي وسريع، في حال سقوط مالي مع تنامي حركة الهجرة التي شهدناها وثبتت أنها موجهة وممولة أوروبيا، ضمن سقوط ياماكو سنشهد موجات نزوح كبيرة، فضلاً عن خطر تسلل عناصر إرهابية بين صفوفهم.
بناءً على ما تقدم، فإن ما يجري في الفاشر ودارفور ومالي، يشكل أحد فصول إعادة رسم دوائر النفوذ في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي وافريقيا الوسطى. وفقاً لخرائط جيوسياسية جديدة.
إذا نجح مشروع تفتيت الدول، أو خلق كيانات مصغرة، وفقاً لمنطق خطة ينون، فإن مصر، كدولة ذات دور محوري، قد تجد نفسها محاطة بجيران أقل استقراراً، أو أكثر تأثراً بنفوذ خارجي، ما يجعلها في وضع دفاعي على أقل تقدير، عدا عن أنه يمكن أن يعرض استقرارها لزعزعة في وقت يطرح فيه المشروع العابر للبحار لحفاظ مصالح الكبار، الى تقسيم مصر والجزائر وليبيا وتونس والمغرب، كذلك لتأمين استقرار الكيان الصهيوني.
أما عن دور روسيا، الذي اخرج الوجود الفرنسي من عدة دول، فهي تعمل عبر قوات «أفريكا كوربس» وغطائها مجموعة فاغنر «لم يكن للروس حضور ميداني فعلي أو فهم للتركيبة الأنثروبولوجية للمجتمع المالي، وهو ما جعلهم يخسرون معركة كسب القلوب والعقول في اكثر من دولة ». والحل العسكري وحده لا يكفي، لأن جذور الأزمة تمتد إلى الانقسامات القبلية والعرقية، ما يجعل أي تدخل خارجي محدود الفعالية.
يبقى الدور الصيني، الذي دخل القارة بنفوذ اقتصادي ناعم، هل سينجح في تمدده في القارة الافريقية؟ مع دهاء الغرب، الذي يعرف جيدا القارة وتعرجاتها وأزماتها، الديمغرافية والانثروبولوجية، لأغلب مجتمعاتها. ناهيك عن معرفته الدقيقة لثرواتها التي لا يحسن معرفتها أبنائهاوالتصرف فيها.
في السياسة الأمريكية لإدارة الأزمات والحروب. يقبع حلف وظيفي يتقاسم الأدوار، مع دول متورطة في تفتيت المنطقة لحساب غيرها، الى كيانات لتأمين مصادر الطاقة. والثروات هذا ما ظهر جليا منذ انطلاقة الربيع العبري المشؤوم. وضمن هذا الحلف دول، كالإمارات والسعودية وقطر وتركيا والكيان الصهيوني، واحزاب اسلاموية، لإخراج كل السيناريوهات المطلوبة، لإيهام الرأي العام على اختلاف الأجندات، في دور مخاتل أصبح مكشوف الأهداف.
بتت اللعبة مكشوفة، أن الغرب يستخدم هذه الجماعات، كورقة ضغط في صراعه ضد خصومه، في المنطقة. وتثبتت معطيات أنّ أطراف دولية عديدة تعمل لتركيز وجودها هناك، مثل أمريكا وتركيا والكيان الصهيوني وروسيا والصين والامارات. ولا وجود لمؤثر من قوى المنطقة كمصر والجزائر.
حسن فضلاوي
