– بعيداً عن التنظير لرسم إطار مفاهيمي لاستراتيجية المقاومة في لبنان لمواجهة تحديات ما بعد وقف إطلاق النار، كتعبير الصبر الاستراتيجي أو سواه، وبعيداً عما يقوله بعض محبي المقاومة والمؤمنين بها ويحاولون تقويلها معادلات قوة وفائض قوة وتهديد وإنذار من نوع تعداد المقاتلين أو تسمية صواريخ نوعيّة سوف تظهر وتحديد مواعيد افتراضية لقرب نفاد الصبر، تبدو المقاومة مؤمنة بما تفعل وفقاً لاستراتيجية الصمود التي تنتهجها منذ وقف إطلاق النار، مقابل الكتمان السياسي والإعلامي حول ما تفعله في بناء قدراتها.
– تتمثل استراتيجية الصمود بالتزام المقاومة بما يوجبه عليها اتفاق وقف إطلاق النار الذي قبلته المقاومة قبل سنتين، وهذا يعني الالتزام بعدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية واعتبار التعامل معها من مسؤولية الدولة اللبنانية وفقاً للاتفاق، وهذا يعني تحمل تضحيات ودماء وتعرض بيئة مضحية مخلصة مساندة للمقاومة يجري تدمير منازلها وممتلكاتها وأرزاقها ويتمّ تهجيرها وقتل عوائلها، ويعني عدم المبادرة إلى القيام بعمليات مقاومة لتحرير الأرض المحتلة وترك أمرها للدولة اللبنانية، سواء عبر الطرق الدبلوماسية أو بواسطة تفعيل دور الجيش اللبناني في الثبات في الأراضي اللبنانية والدفاع عنها والمقاومة مستعدّة للوقوف وراء الجيش لا أمامه، والصمود يعني مواصلة التعافي أي توفير مقومات الصمود المادية لضمان إيواء المحتاجين وترميم المنازل المصابة والمدمرة، ومقومات الصمود العسكرية التي تتصل بإعادة تنظيم وتأهيل بنى المقاومة وتشكيلاتها وترتيب أسلحتها ومستودعاتها وقدراتها وزيادة جهوزيتها لمواجهة كل الاحتمالات، لكن بصمت.
– تتمثل استراتيجية الصمود سياسياً بالسعي إلى احتواء الاستفزازات التي تأتي من الداخل والخارج، لإبقاء قضية إلزام الاحتلال بتنفيذ موجباته في اتفاق وقف إطلاق النار لجهة الانسحاب ووقف الاعتداءات، القضية الأولى في واجهة الاهتمام الرسمي والشعبي الداخلي والخارجي، والاستعداد لخوض معارك سياسية شائكة وقاسية لمنع أي محاولة للعبث باتفاق وقف إطلاق النار وتحويله عن مساره لجعله إطاراً لمطالبة المقاومة بما يتخطى التزاماتها في الاتفاق جنوب الليطاني كمثل لسعي لجعله إطاراً لدعوات نزع سلاح المقاومة، وقد قدمت المقاومة مثالاً لخوضها بلا هوادة هذا النوع من المعارك مع قرارات الحكومة في 5 و7 آب الماضي، كما تعني استراتيجية الصمود سياسياً الضغط على الحكومة للقيام بواجباتها بجعل قضية السيادة في المقدمة دائماً، والحؤول دون انخفاض مناعتها أمام الضغوط الأميركية لتحويلها أداة مواجهة مع المقاومة، ومقارعة المشاريع المشبوهة الهادفة لفتح النقاش حول اتفاق جديد بديل عن الاتفاق الوحيد الذي تلتزم به المقاومة، وترفض أي بحث خارجه قبل تطبيقه من الجانب الإسرائيلي بعد ان طبق لبنان دولة ومقاومة ما عليهما.
– استراتيجية الصمود تعني الاستثمار على كل مؤشرات إيجابية في الموقف داخل مؤسسات الدولة، تجعل منطق المقاومة أقوى، كمثل قول رئيس الجمهورية بعد الاعتداء على مبنى بلدية بليدا عن توجيهه للجيش اللبناني التصدي لكل محاولات التوغل الإسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية، ومثل قول قائد الجيش أمام مجلس الوزراء أنه يجدر بالحكومة تعليق مهل حصر السلاح جنوب الليطاني كرد على توسيع الاحتلال للاعتداءات وربط العودة إلى إجراءات الجيش جنوب الليطاني بوقف الاعتداءات الإسرائيلية، ومن ضمن هذه الرؤية تكرر المقاومة التزامها بالوقوف وراء الجيش واعتبار أن قرار الحرب والسلم بيد الدولة، وأن الدفاع عمل مشروع ولا يمكن احتسابه ضمن قرار الحرب والسلم.
– تستند استراتيجية الصمود إلى قناعة بأن كلفة الصمود على المقاومة وعلى بيئتها هي أقل من كلفة الحرب إذا ذهبت إليها المقاومة ابتداء، أو جاءت كنتيجة للرد على الاعتداءات، وبينما تسبب الاعتداءات نزيفاً للمقاومة وبيئتها فإنها تبقي حال الحرب قائمة بالنسبة لسكان مستوطنات الشمال رغم عدم قيام المقاومة بالردّ، ما يوجب على الاحتلال حسم الأمر بأسرع وقت بين الذهاب ابتداء للحرب أو البحث عن حل يوقف حال الحرب، والمجيء للحرب يجعل المقاومة في موقف الدفاع ويمنحها فرصة استخدام ما لديها من مقدرات ومن خلفها كل اللبنانيين بخلاف ما جرى في حرب الإسناد التي انقسم حولها اللبنانيون، وإن ذهب الاحتلال إلى البحث عن حلول يجب على المقاومة أن تكون قد أقفلت كل طرق الالتفاف على اتفاق وقف إطلاق النار وجعل بنوده ممراً إلزامياً للاحتلال نحو استقرار الجبهة.
– رغم كل التغول الإسرائيلي والتوحش الذي أظهرته حرب غزة، تتابع المقاومة المشهدين الدولي والإقليمي وتدرك حجم التناقضات في كل منهما، وتقرأ المأزق الأميركي الإسرائيلي في العجز عن الحسم العسكري للحروب في كل الجبهات من غزة إلى لبنان إلى اليمن والعراق وإيران، والعجز المقابل عن توحيد كتلة إقليمية صلبة تكون “إسرائيل” ضمنها، ويكون العرب الفاعلون ضمنها، لإنتاج مشروع تسوية واضحة قابلة للحياة للصراع المفتوح القائم، كما تقرأ ما فعلته تحولات الرأي العام الغربي والأميركي خصوصاً والقيود التي يفرضها هذا التحول على الحكومات وحدود دعمها المفتوح للاحتلال وتصوراته الجنونية للمزيد من الحروب، وكما تثق المقاومة بأن الزمن في صالحها لجهة التعافي وبناء القدرة، تثق بأن الزمن لصالحها في اكتشاف المزيد من اللبنانيين داخل الدولة وخارجها بأن حرصها الوطني يتفوق على حزبيتها، وأن ما يعرض على لبنان على حساب المقاومة مشاريع فتن، ولا ترسم إلا سراب حلول لا أفق لها وتمثل فخاً وورطة، وأن الوحدة الوطنية والتمسك باتفاق وقف إطلاق النار بوليصة تأمين وطنية، والزمن لصالح المقاومة في تظهير التناقضات الكامنة داخل الكيان وبينه وبين سائر حلفاء أميركا في المنطقة، وبينه وبين قوى الرأي العام في أميركا نفسها، وانعكاس كل ذلك على حدود القدرة الإسرائيلية على شن حروب، والمعادلة التي يرسمها الصمود هي أن التفوق على العدو في قدرة التحمل لنصف الحرب بينما الكيان لا يحتمل استمرار حال الحرب رغم أنها تبدو بلا أكلاف عليه، يمثل مصدر قوة للمقاومة لا يقلّ عن قدرة الحاق الأذى بهذا العدو خلال الحرب.
ناصر قنديل
