لم تكن انتخابات عمدة مدينة “نيويورك” الأسبوع الماضي عملية انتخابات تقليدية حيث يتنافس مرشح ديمقراطي في وجه آخر جمهوري إلى جانب مرشحين مستقلين، بل كانت مواجهة بين تيار جديد بدأ يظهر في القواعد الشعبية في الولايات المتحدة الأمريكية وبين الناخبين التقليديين لكلا الحزبَين المسيطرَين تاريخيا على المشهد الانتخابي في أمريكا. والدليل على ذلك هو اتحاد الحزبين الديمقراطي والجمهوري بشكل مريب وغير علني في وجه المرشح الديمقراطي “زهران ممداني”. فبعد تغلب “ممداني” على منافسه “أندرو كومو” في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، كان من المفترض أن يتنحى “كومو” ويتوحد الحزب الديمقراطي وراء “ممداني” سعيا في إيصاله إلى منصب العمدة، ولكن “كومو” اختار معارضة قاعدة حزبه الشعبية والاستمرار في السباق كمرشح مستقل في وجه مرشح حزبه شاقّا عصا مؤيّدي الحزب الديمقراطي. والوضع تجاوز ذلك سوءا إلى حد تهرب معظم قادة الحزب الديمقراطي من إعلان دعمهم وتأييدهم لمرشح حزبهم “ممداني” في تصرف يخالف بديهيات العمل السياسي والحزبي في الولايات المتحدة. ومما زاد الأمر غرابة سعي الجمهوريين لإيصال “كومو” إلى منصب العمدة على الرغم من وجود مرشح رسمي للحزب الجمهوري وهو “كيرتيس سيلفا”، وذلك فقط لقطع الطريق أمام وصول “ممداني”. فنادى “ترامب” بالويل والثبور وعظائم الأمور في حال فوز “ممداني” وشنّ عليه حربا شعواء وهدد بإجراءات تطال مجمل سكان المدينة في حال فوزه، وجنّد لحربه هذه الأموال ووسائل الإعلام حتى بات المرء يخال المعركة معركة انتخابات رئاسية أو ثأر شخصي بين “ممداني” و”ترامب” نفسه.
نيويورك… أمريكا مصغّرة
ولفهم أبعاد هذه المعركة وأسباب شراستها، لا بد من فهم ما تمثله المدينة في المجتمع الأمريكي. تعدّ “نيويورك” واحدة من أكثر المدن تنوعا في الولايات المتحدة حيث تجتمع فيها أعداد كبيرة من أبناء الجالية اليهودية والمسلمة والأفريقية الأمريكية واللاتينية إلى جانب كتلة بيضاء كبيرة. كما تعدّ عصبا اقتصاديا وشريانا حيويا في الولايات المتحدة والمدينة الأهم فيها بل في العالم أجمع على عدة أصعدة. وبسبب تنوع الناخبين في المدينة من حيث العرق والإثنية والدين والوضع الاجتماعي تنوعا كبيرا، وبسبب اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، يمكن اعتماد نتائج الانتخابات في هذه المدينة كمؤشر إلى التوجهات العامة لدى ناخبي الولايات المتحدة بشكل عام بحيث تصبح “نيويورك” نموذجا مصغرا عن الولايات المتحدة بأسرها بسبب هذا التنوع، وتصبح قراءة نتائج الانتخابات ودراسة توجهات الرأي العام فيها غاية في الأهمية لما تحمله من دلالات على توجهات الرأي العام الأمريكي قاطبة.
تحوّل في المزاج الأمريكي العام
قد يُرجع البعض سبب نجاح “زهران ممداني” الديمقراطي الاشتراكي المسلم في انتخابات عمدة أكبر مدينة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى ضعف وفساد خصميه من جهة، أو إلى قدرته على التواصل الحقيقي مع أبناء المدينة وفهم ما يحتاجون إليه حقيقة والتزامه بالسعي إلى جعل المدينة مكانا يستطيع أبناء الطبقة الوسطى العيش فيه بحد أدنى من الكرامة. فالعيش في نيويورك بات تحديا حقيقيا يواجه الكثير من أبناء المدينة بسبب ارتفاع الإيجارات السكنية وتكاليف الحياة بشكل بات يهدد قدرتهم على الاستمرار فيها.
قد تكون هذه الأسباب وغيرها عوامل دافعة في حركة “ممداني” وفوزه المدوّي في الانتخابات، ولكن السبب الرئيس الذي مكّن شابا مسلما اشتراكيا من أصول هندية من الفوز في انتخابات مدينة تعدّ المركز الاقتصادي الأول في العالم هو التحول الجذري في الرأي العام الأمريكي متأثرا بالأحداث التي جرت في العامين المنصرمين وتداعياتها. والدليل على هذا قول “ترامب” نفسه قبل بضعة أيام بشكل علني بأن كلمة واحدة سيئة عن “إسرا/ئيل” كانت سابقا كفيلة في إخراجك من عالم السياسة وإنهاء مسيرتك السياسية، أما اليوم فكلمة واحدة حسنة عن “إسرا/ئيل” باتت كفيلة في فعل ذلك. عبارة “ترامب” هذه تختصر المشهد السياسي القائم الآن في الولايات المتحدة بل في العالم الغربي بأسره، وتعكس عمق الندوب التي خلّفتها حرب “إسر/ئيل” على غزة على مدى عامين في السردية التي كانت سائدة في المجتمع الأمريكي حتى الأمس القريب. فبحسب قول “ترامب” وما يترتّب عليه من فهم لطبيعة الجوّ السياسي السائد الآن، يعود فوز “ممداني” بجزء كبير منه إلى موقفه من “إسر/ئيل”، وهو الذي جاهر بمواقفه المُدينة للإبادة الجماعية والمؤيدة للفلسطينيين وقضيتهم، وكان سبّاقا في الدفاع عنهم من دون مواربة أو تلطيف للحقائق أو العبارات. فهل يشكّل فوز “ممداني” ثغرة في جدار الواقع السياسي الأمريكي وحجر أساس في بناء واقع آخر مناهض لسياسات الحكم السابقة؟ الانتخابات النصفية في العام المقبل كفيلة في الإجابة عن هذا السؤال.
حسن علاء الدين
