المباحة تُحاضِر بالعِفّة، والسارق يُحاضِر بالأمانة، والمنافق يُحاضِر بالصدق، والمتذبذب يُحاضِر بالثبات.
بدأت بهذه الطريقة لأوضح أن ليس كل من تكلّم كان ذا هدفٍ سامٍ ونبيل؛ فبعض المتكلمين ناقصون، يتحدثون عمّا يفتقدونه لا عمّا يملكونه.
لا تُصدّقوا كل ما تسمعون، فبعضهم يُجيد فنّ الكذب ويتقن استخدام المفردات. وإن لم يكن الكلام مقروناً بالأفعال، فهو هباء منثوراً، لا يتأثر به إلا غبيّ أو جاهل.
ليس من الضروري أن أردد يومياً أنني “مقاومة”، فالأفعال هي التي تُثبت الأقوال.
حين قال جيفارا “الوطن أو الموت”، كانت تلك العبارة من أقصر الخُطب في التاريخ، لكنها الأعمق بُعداً والأدق تعبيراً؛ لقد اختصر بها صراع الإنسان بين الكرامة والفناء.
والمشهد ذاته كان موجوداً مسبقاً، لكن للبعض حساسية من الدين. فعندما قرّر المسيح أن يكون فادياً، كان يعلم أنه أمام خيارين: الهدف أو الموت.
وعندما خرج الحسين عليه السلام للمواجهة، كان مدركاً أن الموت نتيجة حتمية، لكنه خرج ليُثبت الصدق ويُحيي القيم.
وعلى صعيد النساء، تبقى السيدة مريم عليها السلام مثالاً يُخلَّد؛ فعندما وُضعت أمام امتحان لا يحتمله بشر، لم تُحاضر في الصبر، بل جسّدته فعلاً. صمتت، وتركت للفعل أن يتكلم حين نطق عيسى عليه السلام في المهد دفاعاً عنها. كان الصمت هنا أبلغ من ألف خطبة، وكأنها تُعلّمنا أن الحق لا يحتاج ضجيجاً ليظهر، بل يحتاج صدقاً وثباتاً.
ثم جاءت السيدة زينب عليها السلام لتُكمل المشهد الإنساني والإيماني بقولها العظيم:
“ما رأيتُ إلا جميلاً”، وكأنها تُعلن أن طريقهم هو طريق الخلود، وأن من يقف في وجه الحق إنما يسلك طريق الفناء.
وفي التاريخ الحديث، تكرّر الموقف ذاته بأشكال أخرى، فالمطران هيلاريون كابوتشي لم يكتفِ بالتنديد بالاحتلال من على المنابر، بل حمل السلاح ونقله إلى المقاومين في فلسطين، ودفع ثمن مواقفه سجناً ونفياً.
وكذلك الشيخ راغب حرب الذي قال: “الموقف سلاح، والمصافحة اعتراف”. لم تكن كلماته شعاراً، بل عقيدة عاشها ومات لأجلها.
هؤلاء جعلوا من القول فعلاً، ومن الموقف حياةً تُخلّد لا تُنسى.
المراد من كل ما ذُكر هو التأكيد على فكرة أن ليس كل قول يستحق التفاعل معه، سواء أكان إيجاباً أم سلباً، إن كان خالياً من الإثبات والبرهان. فليس كل من يُحاضر بالشرف شريف، ولا كل من يتحدث بالعفة عفيف، ولا كل من يتغنّى بالكرامة يملكها.
لا أريد التعميم، لكن أود أن أقول إن الصادقين قلّة، وإن البعض ينقل أمراضه النفسية أينما حلّ، فيتغنّى بما يفتقده، ويُكرّر ما كان يحلم بامتلاكه، في اعترافٍ غير مباشر بعُقد نقصه. ففاقد الشيء لا يُعطيه؛
وهل سمعتم عن عطشانٍ يروي عطاشى؟ أو عن ذليلٍ فهم معنى الكرامة؟
قد يقول البعض: “فاقد الشيء يُعطيه”،
لكن لا يا عزيزي، هذا لا ينطبق على الفقد بل على الحرمان.
فقد يكون الإنسان يتيماً مثلاً، ولأنه ذاق لوعة اليُتم وحمل صفات نبيلة، قرّر ألّا يُذيق غيره ذات الألم، لأنه أدرك المعاناة.
والفرق شاسع بين الفقد والحرمان.
دمتم بخير، أيها المخلصون الشرفاء الفاعلون، الحافظون لمعنى قوله تعالى:
“كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أن تقولوا ما لا تفعلون.”
فاتنة علي_لبنان
