قد يبدو هذا الوصف لتوماس برّاك المبعوث الرئاسي الأميركي إلى لبنان وسورية، وصفاً عدائياً نابعاً من الوقوف على ضفة سياسية مخالفة للضفة التي يقف فيها برّاك، لكن هذا المقال سوف يثبت العكس، أن هذا الوصف هو حصيلة مجرد تفكيك منطقي واقعي لخطاب برّاك الذي أدلى به خلال اليومين الماضيين، حيث وصف لبنان بالدولة الفاشلة في أول مرة، ودعا الرئيس اللبناني العماد جوزف عون إلى الاتصال الهاتفي المباشر برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في المرة الثانية.
تسهل طبعاً محاكمة مواقف برّاك أخلاقياً، والقول إنه يريد تغطية السموات بالقبوات، فيخفي تنكر دولته لالتزاماتها في اتفاق وقف إطلاق النار ودورها كضامن لتنفيذ “إسرائيل موجباتها، ويمكن استعادة الفشل المالي ودور حاكم مصرف لبنان الابن المدلل لواشنطن الذي هدّد لبنان بالعقوبات إذا تمّت تنحيته من منصبه، والفشل السياسي الذي يشكل أساس الفساد والمستند إلى النظام الطائفي خصوصاً في قانون الانتخابات النيابية، حيث كان ولا يزال هم واشنطن منذ أيام نصائح جيفري فيلتمان عام 2005 والانتخابات الآن، وأثناء ما سُمّي بثورة تشرين، كيفية محاصرة المقاومة في البرلمان، وليس قيام إصلاح سياسي يبني دولة مؤسسات وقانون، وهو موقف برّاك ذاته من الانتخابات وقانونها اليوم، وواشنطن تدعم بقوة الأطراف التي ترفض الأخذ بالدعوة لتطبيق المادة 22 من الدستور التي تنصّ على انتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي، كما يمكن القول عن دعوة رئيس الدولة التي تعرّضت لمجازر ومذابح من كيان الاحتلال، للاتصال بمجرم حرب ملاحق من المحكمة الجنائية الدولية إنها مشروع إهانة وإساءة للرئيس اللبناني، لكننا نعلم أننا في نقاش مع سمسار عقاري، ولذلك سوف نناقش طروحاته وفق منهج الواقعية التي يتحدّث بها سماسرة العقارات عندما ينصحون الزبون بدفع الرشوة خلال تسجيل عملية تسجيل الشراء واعتماد أرقام كاذبة، بداعي أن الزمن تغير ولا بد من محاكاة روح العصر، واستخدام الذكاء.
سوف نبدأ من الرسالة الطازجة التي وجهها ترامب إلى الرئيس جوزف عون داعياً الى الاتصال بنتنياهو، ونقول طالما أن نية برّاك حسنة ونابعة من خبرته وعبقريته في علوم السياسة والتفاوض والاستراتيجيات، وفهمه العميق للإقليم، وما دام هو مبعوثاً رئاسياً إلى كل من سورية ولبنان، وطالما أنه يصرّح يومياً بأن الرئيس الانتقالي في سورية نموذج يحتذى في الواقعية والحرص على بلده والشجاعة في تحمل المسؤولية، وطالما أنه ينتقد الدولة اللبنانية ويعتبرها دون مستوى الإدراك السوري المتفوّق للمتغيرات، ويقول إن الدولة اللبنانية مرتبكة في قرار نزع سلاح المقاومة، وإن إزالة هذه العقدة من الطريق تسهل التوصل إلى اتفاق مع الاحتلال، بينما هذه العقدة غير موجودة في سورية حيث لا مقاومة ولا من يقاومون، ويعتقد أن الدولة اللبنانيّة جبانة ويتهمها بالتردد في قبول التفاوض المباشر مع الاحتلال لأنّها لو فعلت ذلك لتسارعت فرص الحلول، بينما في سورية تمّ حلّ هذه العقدة منذ شهور بشجاعة الرئيس السوري الانتقالي محبوب برّاك ورئيسه، وكل ما بقي لاستعادة الأراضي السورية المحتلة ووقف الاعتداءات على سورية وتحرير الأجواء السورية من العربدة الاسرائيلية، هو إجراء هذا الاتصال بنتنياهو، فلماذا يبخل برّاك بهذه النصيحة التي تعادل جملا من ذهب على مَن يحب ويراه مثالاً للشجاعة والفهم العميق ومَن سوف يترجمها فوراً، ويتبرّع بها مجاناً لمن يعتقد أنه متردّد ومرتبك ولن يأخذ بها؟
في حديث الدولة الفاشلة ونحن نعلم أن دولتنا فاشلة، لكن ليس بجيشها الوطني، بل بتركيبتها المالية وتركيبة نظامها السياسي القائم على الطائفية وواشنطن عرّاب هذا النظام المالي والسياسي، لكننا لن نناقش بهذا، بل سوف نسأل السيد برّاك وفق معايير الدولة الفاشلة التي طبقها علينا، أنه قال بأن حوهر الفشل عائد لوجود حزب الله وسلاحه، وبسببه الدولة ضعيفة ومفككة وعاجزة والاقتصاد فاشل، معتبراً أن ما يمثله حزب الله في لبنان هو سبب الفشل المحوري، والقصد هنا وفق منهجية برّاك وببغاواته في لبنان، نظرية وجود سلاحين، ما يعني دولة داخل الدولة، ما يعيق نهوض الدولة، ونحن نسأل برّاك وفق نظريّته أين تقع الدولة السورية، حيث يوجد على الأقل طرف يمثل مكوناً سورياً خالصاً في جنوب سورية لا يحمل السلاح فقط، بل يحمله بوجه الدولة ويمنعها من دخول مناطق سيطرته، وطرف في الشمال يشهر سلاحه على أجهزة الدولة ويمنعها من دخول مناطق نفوذه، وكل من الطرفين يستولي على مؤسسات الدولة في مناطق نفوذه وسيطرته، ويتولى شؤون الجباية والقضاء بل إن الطرف المسيطر على الشمال يستولي على الثروة النفطية للبلاد، لكن السيد برّاك لم يجد ذلك سبباً للقول إن سورية دولة فاشلة، ولم يصف الرئيس الانتقالي بالتردّد في نزع السلاح “غير الشرعي” بل إنه يرعى الحوار بين الدولة وسلاح الشمال، ويخرس في الحديث عن سلاح الجنوب خشية إغضاب

“إسرائيل”، فهل القصد أن الدولة لا تكون فاشلة لمجرد وجود سلاح خارج الدولة، ويمكن أن لا تكون فاشلة ولو كان السلاح متمرداً على الدولة ويسيطر على ثرواتها ومؤسساتها، طالما أنه لا يقاتل “إسرائيل”، وتصير فاشلة حتى لو كان السلاح عاقلاً ووطنياً ويسلّم بحصرية حق الدولة بإدارة شؤون الثروة وشؤون المواطنين والأمن والقضاء، لمجرد أن هذا السلاح يزعج “إسرائيل”؟
لقد كان الوعد أن نثبت أن برّاك منافق وكذاب لعلنا وفقنا في ذلك؟

ناصر قنديل