تاريخياً، الحروب تبدأ بالكلمة، والكلمة هي المصطلح المستخدم.
كثيراً ما يتم التمهيد لحرب على أي دولة بحجة «الديمقراطية» أو «الإصلاح»، وتطرح الدول التي تريد شن هذه الحرب نفسها كمنقذ أو كحبل خلاص.
الأمثلة كثيرة، ولعل أبرزها لبنان الذي له حصة الأسد في كل مرة في هذه المنطقة؛ ففي كل مرة يُبرَّر فيها إقرار قانون أو تدخل لدولةٍ خارجية تحت شعار إنقاذ لبنان أو مساعدته. هذا في الصورة العامة والمفهوم العام، ولكن ماذا عن التفاصيل؟ دعونا نغوص معاً.

في هذا المقال، عزيزي القارئ، كما في غيره من المقالات السابقة، الهدف محاكاة الفكر وطرح الأسئلة وتنشيط العقل؛ فالمؤامرة كبيرة، والأخطر أنها غزو للعقول وليس بالسلاح فقط .

دائماً ما تُؤطَّر الكلمات وتُغَلَّف بعناوينٍ براقَة لقبول فكرةٍ غير مقبولة بطبيعتها. حرب العراق مثلاً بُرِّرت تحت ذرائع أسلحة دمار شامل، والحرب على سوريا بدأت بذريعة الحرية ثم لاحقاً بذريعة الأسلحة الكيميائية، وحرب أفغانستان كانت لمحاربة الإرهاب!.
هذا التضليل يوظفه الكيان ومن خلفه لخدمته: الحرب التي تُشن على سوريا ولبنان لا يُقال عنها حرب بل «ضربات محدودة» و كأن هذه المناطق غريبة وليست جزءاً من الدولة و الاعتداء عليها لا يمسّ مباشرة بسيادتها ووحدة أراضيها ويشكل خطراً !!
فلماذا لا تُسمى الأمور بمسمياتها؟ نحن فعلياً دولٌ في المنطقة نقع تحت حربٍ بكل بساطة؛ فلم التجميل والفلاتر؟

أبرز من أكد هذا الموضوع هو نعوم تشومسكي الذي قال إن الغرب يجمل المصطلحات لتحويل الحروب إلى حالة أخلاقية مبررة، وهي في الواقع عكس ذلك تماماً.

الأمثلة لا تنتهي؛ فمثلاً عبارة «القضاء على حماس في غزة». من هي حماس؟ إن لم تكن غزة نفسها؟ أليس أبناء حماس هم الغزاويين؟ الموضوع ذاته ينطبق على لبنان: لا سلام أو راحة إلا بتسليم سلاح حزب الله — أليس هذا السلاح كان نتيجة اعتداء؟ أليس هذا الحزب جزءاً من المكونات اللبنانية؟ وهل تبرير قصف مناطق محددة تحت عبارة «استهداف مواقع أو بنى تحتية لحزب الله» ينفي أن هذه الأرض لبنانية؟ غريب !!!

اللعبة التي تتسلل إلى العقل وفي اللاوعي بدأت تتكشف اليوم. التغنّي بالديمقراطية والحرية والعدالة والإصلاح ما هو إلا تغنٍ كاذب؛ في الحقيقة هو إخضاع واعتداء واحتلال. ربما المرة التي كان فيها ترامب أكثر صدقاً عندما غيّر اسم وزارة الدفاع إلى «وزارة الحرب» — عكس الكذبة التي يخبئها الكيان الذي يدّعي بأن جيشه جيش دفاع، بينما هو جيش حرب لم يكن مدافعاً منذ نشأته بل دائماً كان المعتدي، والتاريخ يشهد.

ما تعرض له الكيان من هجمات شنتها المقاومة عبر الزمن لم تكن سوى رد فعل على فعل إجرامي أساسي قام به هو.

الملفت أن ما يسمى اليوم «مناطق عازلة» في الحقيقة احتلال، لكن لغسيل العقول تُستعمل كلمة «مناطق عازلة» بحجة التنمية والازدهار والاقتصاد. هذا النهج ليس وليد اليوم بل يعود إلى الحروب العالمية الأولى والثانية وحرب فيتنام؛ نهج متبع ليُجمِّل أي اعتداء. قبل القصف وأي عمل عسكري تُهيَّأ النفوس لإيجاد التبريرات من خلال تكرار هذه المصطلحات التي تشكل الشريان الأساسي لحرب السردية.

في الأيام الأخيرة صرحت «إسرائيل» بتوسيع ضرباتها على لبنان، فأعربت أمريكا عن قلقها، ثم جاء تصريح لتوم براك مفاده أن لبنان دولة فاشلة. إن أردنا الغوص وتحليل الخبر والانتباه لما ورد حرفياً: الأولى اتخذت قرار توسيع الضربات، والثانية أعربت عن قلقها. وكأن أمريكا هي الضامن للشعوب، وكأنها تحاول تصوير أن هناك في لبنان دولة قد ترد فتؤدي إلى نتائج كارثية — وهذا عكس الواقع تماماً. هنا التعبير عن القلق هو موافقة ضمنية على تصعيد العمليات ضد لبنان. وعندما يقول براك إن لبنان دولة فاشلة فإنه يعلم تماماً أن الفشل بدأ من تدخل إدارته؛ هذه الدولة مخترقة امريكياً .
مجدداً ، ما رُوِّج له سابقاً بأنه إعادة بناء لدولة في العراق كان الهدف منه تدمير العراق والجيش العراقي، وأُعيدت الكرة في سوريا عندما كان الإعلام يروج بأنه يريد الديمقراطية والانفتاح لسوريا، وها هي اليوم مدمرة ومعرضة للتقسيم ولا تملك جيشاً. الكلام شيء، والأهداف شيء آخر.

لذلك إعلامنا مدعو للمراقبة والتدقيق والانتباه وقراءة ما وراء الخبر وبين السطور. علينا أن نضع في الاعتبار أن هذا الغرب اليوم هو أكبر قوة استعماريّة طامعة في منطقتنا، وأنه لا يهتم بشكل حياتنا — سواء عشنا برغد وحريّة وديمقراطية كما يزعمون أم قبعنا تحت الظلم والاستبداد. كثير من الدول العربية ليست فيها ديمقراطية حقيقية؛ بعضها أنظمة ملكية وراثية تتعارض مع الشريعة الإسلامية التي يزعمون بأنهم تحت رايتها. فأين الديمقراطية ومبدأ «أمركم شورى بينكم»؟ قد نُسّف هذا المبدأ. ولماذا أنظمة تمتلك انفتاحاً أكبر تم القضاء عليها ومحاربتها ؟

ببساطة، بقاء بعض الأنظمة مرتبط ببقاء الكيان لأنها حليفة له و لدول الاستعمار المتمثلة بأمريكا ومن لفّ لفيفها. فلا يغرّنك الإزدهار المالي لدول الخليج؛ فهو سياسة لتكميم الأفواه. ورغم هذا ، لا ينفي ذلك وجود حالات فقر شديد في هذه الدول نفسها. مثلاً النهضة التي تشهدها دبي لا تعمّ الشارقة!!.

عندما يُبرَّر قصف جنوب لبنان واغتيال أبنائه يومياً تحت ذرائع سلاح حزب الله، هذا غزوٌ أعظم للعقول. وعندما تُبرَّر حرب الإبادة في غزة بأنها «للقضاء على حماس»، فهذا ليس بالأمر الهين؛ المراد التأثير على العقل وغزو الفكر وقطع أعضاء من الجسد الواحد بهذه الطريقة، تتم دائماً محاربة النتيجة ( المقاومة) والتغاضي عن المسبب الذي هو الاحتلال؛ بهذا تُجلد الضحية ويُغض الطرف عن الجاني!

تصريحات براك الأخيرة تحمل الكثير من الخبث: الحديث عن أن الدولة اللبنانية فاشلة ثم عن ضيق الوقت أمام هذه الدولة لنزع سلاح المقاومة.
الأمريكي نفسه مسؤولاً عن تسليح الجيش اللبناني ونوعيّة السلاح المقدم، فهذا السلاح لا يشكل خطراً على إسرائيل وإنما ينفع لأي (مواجهة) قد تقع بين المقاومة والجيش. هذا هو الهدف الأساسي الذي يعمل عليه الأمريكي الآن(حرب أهلية )
ولعل لسان براك خانَه عندما قال بوضوح إن هذا الجيش مسؤول عن الصدام المباشر مع المقاومة ومواجه شعبه لتحقيق الهدف المنشود. إذاً الغاية ليست التفاوض على سلاح حزب الله بل على كيفية نزعه.

استنتاجاً من كل ما سبق، يجري الآن تهيئة العقول — وسأكتفي في الحالة اللبنانية على الأقل — لتقبل فكرة الحرب وإيجاد التبريرات للكيان وغرس بذور اللوم على الحزب وسلاحه وفشل الدولة كأسبابٍ أساسية في عدم تحقيق الاستقرار والأمان في المنطقة. هل تتخيلون مدى الوقاحة التي يُعامل بها العدو ومدى الخبث الذي يُسوِّق له وكأنه هو البريء،
فصاحب الحق الذي عرف بانه سلطان بات هو السبب في هلاك شعبه!!!!.
فأين نحن من معركة الوعي؟ وإن أردنا مواجهة السردية الغربية الاستعمارية علينا بمراجعة المصطلحات وعدم التغاضي عنها؛ فالتفاصيل الصغيرة تُبرز الصورة الكبيرة وتوضحها بدقّة.

وأيضاً: إن رُوِّج سابقاً بأن الكيان دمَّر 70 إلى 80% من سلاح هذا الحزب فلماذا هذا الإصرار على نزع السلاح؟
وإن كان نتنياهو نفسه صرح بأن هذه النسب المدمرَة ضمنت زوال الخطر عن إسرائيل، فلماذا يُسلَّط الضوء والجهد على هذا الموضوع؟ هل هو تبرير وتمهيد لاحتلال الجنوب؟

المعركة اليوم ليست فقط ميدانياً بل لغويٌّا وفكريا؛ من يسيطر على المصطلحات يسيطر على السردية ويهيّئ الرأي العام للتبرير. لذلك، مراقبة المفردات وتفكيكها ضرورة لمواجهة غزو العقول وفضح الخبث وراء البريق الإعلامي.

فاتنة علي_لبنان