تنصّ خطة دونالد ترامب بشأن غزة على مرحلتين: الأولى تتعلّق بإنهاء الأعمال العدائية عملياً بما في ذلك تبادل الأسرى أحياءً وأمواتاً. الثانية تتعلّق بإعادة الإعمار، وبإدارة قطاع غزة بعد نزع سلاح حركة “حماس”، وبالخطط السياسية للمنطقة بما قي ذلك توسيع اتفاقات التطبيع.
“حماس” سلّمت كيان الاحتلال بواسطة اللجنة الدولية للصليب الأحمر 8 جثث، وتسلّمت بالطريقة ذاتها جثامين 45 شهيداً فلسطينياً. بحسب حسابات تل أبيب، ما زالت “حماس” مُلزمة بتسليمها18 جثة أخرى. لكن “حماس” تبدو غير قادرة على تسليم المزيد من الجثث بسبب وجودها تحت أنقاض المنازل والمرافق التي دمّرها الجيش الإسرائيلي خلال سنتي حربه الإبادية الشاملة. ليس أدلّ على فظاعة ما ارتكبه الإسرائيليون من تهديم وتقتيل وتهجير من تصريح مسؤول في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي كشف خلال مؤتمرٍ صحافي عقده في جنيف بسويسرا أنّ “الحرب التي شنّتها “إسرائيل” على قطاع غزة خلّفت ما لا يقلّ عن 55 مليون طن من الأنقاض”. في ضوء هذا الواقع المؤلم، قال الناطق بلسان اللجنة الدولية للصليب الأحمر كريستيان كاردون “إنّ عملية إعادة جثث الأسرى الإسرائيليين قد تستغرق أياماً وحتى أسابيع (…) وإن من المحتمل عدم العثور على بعض الجثث”.
هذه المشكلة تبدو أقلّ صعوبة وخطورة من أخرى يلوّح بها بنيامين نتنياهو: استئناف حربه الإبادية لتحقيق كافة أهدافه الإجرامية وذلك باحتلال النصف الآخر لغزة فوق الأرض الذي ما زال تحت سيطرة “حماس” بالإضافة الى ما تحته من أنفاق.
حتى لو افترضنا أنّ “حماس” ستوافق على تسليم قسمٍ من أسلحتها فإنّ نتنياهو، كما ترامب، سيصرّان على نزع كامل أسلحتها. ترامب صرح خلال استضافته رئيس الأرجنتين خافيير ميلي: “حماس قالت إنها ستتخلّى عن سلاحها، وإنْ لم يفعلوا فسنجبرهم على ذلك، وهم يعرفون أنني سأفعل”.
ترامب لم يقل كيف سيفعل ذلك. مراقبون تابعوا مجريات مؤتمر شرم الشيخ استبعدوا أن يستخدم ترامب قواتٍ أميركية لتنفيذ تهديده. رجّحوا أن يضغط الرئيس الأميركي على دول إسلامية وغير إسلامية للمشاركة في تكوين قوةٍ مسلّحة للإشراف على تسلّم الأسلحة من “حماس”. لكن ماذا لو ادّعى نتنياهو بأنّ ما جرى ويجري تسليمه من أسلحة ليس كلّ ما لدى “حماس”، وأنه يقتضي استعمال القوة لنزع كامل أسلحتها حتى لا يضطر كيان الاحتلال إلى أن يتولّى الأمر بنفسه؟
تهديد نتنياهو وارد وممكن. فهو حريص على عدم انفراط حكومته الائتلافية التي يصرّ اثنان متطرفان من أعضائها ـــ إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ـــ على الاستمرار في الحرب أو، في الأقلّ، عدم التهاون مع “حماس” عند عدم امتثالها لبنود خطة ترامب تحت طائلة استقالتهما من الحكومة إذا أبدى نتنياهو ليونةً في هذا السبيل الأمر الذي دفع الأخير الى عدم فتح معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة، وعدم السماح إلاّ بدخول 300 شاحنة يومياً من المساعدات الإنسانية تمثل نصف العدد المتفق عليه لسدّ حاجات القطاع.
كلّ هذه العراقيل المفتعلة تبقى قابلة للعلاج بشكل أو بآخر. لكن ماذا لو تعذّر التوصل إلى تسوية بشأن تجميع وتسليم أسلحة “حماس”؟ هل تقبل الدول الإسلامية، عربية أو غير عربية، باستعمال القوة ضدّ “حماس” لنزع أسلحتها؟ وهل يبلغ بها الخنوع للولايات المتحدة الأميركية حدّ المشاركة في هذه الفعلة الشنعاء التي ترفضها شعوبها بقوةٍ أيّاً تكن العواقب والتداعيات؟
ثمة امتحان آخر يواجه لبنان دولةً وشعباً. ذلك أنّ كيان الاحتلال ما انفكّ منذ مطلع هذه السنة يشنّ اعتداءات يومية، جوية وبرية، تستهدف بلا هوادة البشر والحجر والشجر في كلّ أنحاء البلاد، ولا سيما في منطقة جنوب نهر الليطاني التي سبق لحكومة نجيب ميقاتي أن وافقت في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 على اتفاق لوقف الأعمال العدائية رعته الولايات المتحدة بغية تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 1701 في المنطقة المذكورة التي تحاذي قراها الجنوبية الحدود مع شمال فلسطين المحتلة. نعم، وافقت حكومة لبنان وفعلت مثلها المقاومة بأن سحبت قواتها وأسلحتها من المنطقة تاركةً أمن المواطنين في عهدة الجيش اللبناني وقوات “اليونيفل” الأممية، فماذا كانت النتيجة؟
استغلّ كيان الإحتلال خلوّ المنطقة من المقاومة فاحتلّ خمس تلال داخل الأراضي اللبنانية تُشرف على كامل منطقة جنوب نهر الليطاني، ثم قام بتدمير كلّ القرى اللبنانية الحدودية ما أدّى إلى تهجير أهلها ومنعهم من العودة إليها لترميمها.
لم يكتفِ العدو بذلك بل قام قبل عشرة أيام بتدمير نحو 300 من الجرافات والآليات المعدّة لإعادة الإعمار كانت مركونة على مقربة من منزل رئيس مجلس النواب نبيه بري في المصيلح، ثم قام منذ أربعة أيام بشنّ غارات على المدينة الصناعية في بلدة انصار الجنوبية فدمّر معامل ومشاغل وخزانات مازوت وشرّد عمالها والأهالي الساكنين بقربها.

فعل ذلك كله في وقتٍ كان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون يدعو إلى إجراء مفاوضات غير مباشرة مع كيان الاحتلال بغية “تسوية النزاعات”، ورئيس الحكومة نواف سلام يتعهّد بتنفيذ قرار مجلس الوزراء بحصر السلاح بيد الدولة، أي بنزعه من أيدي مقاتلي المقاومة.
آن الأوان للفلسطينيين واللبنانيين والعرب أجمعين إدراك أنّ العدو الصهيوني، ومن ورائه أميركا، مصمّم على تنفيذ أحلامه التوراتية بما يسمّيه “إسرائيل الكبرى” التي تضمّ كامل فلسطين والأردن ولبنان وسورية والعراق وأقساماً من مصر والسعودية والساحل الشمالي لشبه الجزيرة العربية. يُعلن ذلك جهاراً نهاراً بلسان نتنياهو وغيره من أعضاء حكومته، ومع ذلك ما زال بعض حكّام العرب يظنّون أنّ في وسع الولايات المتحدة “تهدئة” نتنياهو وأمثاله وإعطاء العرب ضمانات بأنّ كيان الأحتلال لن يقضم المزيد من الأراضي العربية، فيما يعتقد بعضهم الآخر انّ الصهاينة ومعهم دول الغرب أقوياء جداً ولا سبيل إلى ردعهم، وأنّ اليد التي لا تستطيع كسرها يُستحسن تقبيلها والدعاء عليها بالكسر!
إنّ أحداً لا يستطيع إكراه حكّام العرب غير القادرين أو غير الراغبين أو الخائفين على مساعدة العرب المقاومين للعدو الصهيوني وحلفائه، لكن ليس من حق الذين لا يساعدون العرب المقاومين أن يساعدوا أعداءهم او يضعوا عقبات في طريق مقاومتهم، أو أن يضنّوا بكلمة استنكار عندما يتجاوز العدو بإجرامه كلّ الضوابط والحدود والأعراف.
دعوا، أيها الحكّام، المقاومين يقاومون ويتحمّلون الأعباء والتضحيات ويتعاونون مع مَن يرعى مقاومتهم أو يناصرهم ولو بالكلمة الطيبة. “حماس” وحلفاؤها قاوموا ولم ينكسروا ولم ولن يستسلموا. مثلهم، بل قبلهم، قاتل المقاومون في لبنان العدو الصهيوني وأكرهوه على الانسحاب بعد 18 سنة من احتلاله شطراً من جنوب البلاد.
العدو الصهيونيّ قويّ بذاته وبالولايات المتحدة من ورائه ومن أمامه. لكن المقاومين العرب الأحياء أقوى بإرادتهم وبصمودهم المديد حتى النصر الأكيد…
د.عصام نعمان