من يظن أن الحرب على غزة قد انتهت، يُخطئ في فهم جوهر الصراع.

فهي ليست حربًا على قطعة أرض، بل فصلٌ جديد من مشروعٍ قديمٍ بدأ قبل أن يُعلن عن قيام “إسرائيل” نفسها. مشروعٌ لم تُرسم حدوده على رمال فلسطين فقط، بل على خرائط القوى العالمية منذ أكثر من سبعين عامًا.

منذ أن تقاسمت القوى الكبرى الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، كان الهدف واضحًا: تفكيك المنطقة إلى كيانات صغيرة يسهل التحكم بها. وفي كل عقد، كانت خريطة جديدة تُرسم بلونٍ مختلف لكنها تحمل الهدف ذاته.

سقطت بغداد عام 2003، فبدأت ملامح “الشرق الأوسط الجديد” تظهر علنًا. ظهرت كردستان العراق ككيان شبه مستقل، وبدأت بوادر “التقسيم القومي والعرقي” الذي يُعاد إنتاجه اليوم في سوريا ولبنان وفلسطين.

سوريا: النموذج الأكثر وضوحًا

عندما اندلعت الحرب في سوريا عام 2011، لم تكن مجرّد ثورة أو حربًا أهلية كما أراد الإعلام أن يروّج.

بل كانت نقطة تحوّل مركزية في مشروع التقسيم.

منذ اللحظة الأولى، بدا أن الصراع يتجاوز الداخل السوري ليصبح ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية.

انخرطت فيه كل القوى الكبرى — أمريكا، روسيا، إيران، تركيا — وكل طرفٍ يملك رؤيته الخاصة للمنطقة.

لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو أن سوريا الموحّدة كانت عقبة أمام المشروع، لأن سقوطها يعني فتح الباب أمام إعادة رسم الحدود من جديد: دولة علوية على الساحل، وأخرى سنية في الشمال والشرق، ودرزية في الجنوب.

هذه التقسيمات لم تكن خيالًا سياسيًا؛ بل طُرحت فعليًا في وثائق وأبحاث غربية منذ عام 2006، أبرزها ما سُمّي بـ“خريطة حدود الدم” التي نشرتها مجلة القوات المسلحة الأمريكية.

الخطاب الداخلي لـ”إسرائيل”: الخوف كعقيدةٍ وجودية

في داخل “إسرائيل”, لا يُدار الخطاب العام بلغة “السلام” بل بمنطق “البقاء”.

منذ تأسيسها، يعيش هذا الكيان في هاجسٍ دائم من الفناء، فيحوّل الخوف إلى عقيدةٍ سياسية، ويبرّر العنف بأنه وسيلة للبقاء.

منذ بن غوريون إلى نتنياهو، ظلّ الخطاب الإسرائيلي متمسكًا بفكرة “التفوّق الأخلاقي والعسكري” كشرطٍ للاستمرار، وبذلك يبرر استمرار العدوان باعتباره “دفاعًا عن النفس” حتى وهو يدمّر مدنًا بأكملها.

لكن الحقيقة أن “إسرائيل” قد تبدو كـ“سوسة صغيرة” على السطح، لكنها جزء من جسدٍ أعمق — مشروعٍ عالميٍّ أكبر تحركه تنازعات القوى الكبرى.

القوى العظمى التي صنعتها تعرف تمامًا أن هذا الكيان، رغم امتلاكه قوة عسكرية هائلة، لا يمكن أن يعيش دون حماية الغرب ودعمه السياسي والمالي والتكنولوجي.

القوى العظمى: لعبة المصالح والتحكم بالزمن

الولايات المتحدة لم تدعم “إسرائيل” حبًا بها، بل لأنها تمثّل أداتها الأكثر فعالية في إدارة توازن القوى بالشرق الأوسط.

كل حرب تُشن، وكل هدنة تُعلن، وكل مبادرة “سلام” تُطرح، تخضع لحساباتٍ أمريكية داخلية دقيقة: انتخابات، ضغط لوبيات، أو تراجع نفوذ في منطقةٍ أخرى.

حتى اليوم، ما يُسمّى بـ“القلق الأمريكي من الحرب” لا ينبع من إنسانيةٍ أو رحمةٍ، بل من الخوف من الانقسام الداخلي الأمريكي، ومن اهتزاز صورة واشنطن في العالم بعد مشاهد غزة.

أما روسيا، فحافظت على موقعها التاريخي كقوةٍ موازنة تسعى إلى منع انفراد واشنطن بالمنطقة، فيما أوروبا بقيت في موقع التابع، عاجزة عن صياغة سياسةٍ مستقلةٍ خارج إرادة البيت الأبيض.

الحرب التي لا تنتهي

من السذاجة أن نصدّق أن الحرب على غزة توقفت، أو أن ما جرى مجرد ردّ فعل محدود.

إنها حربٌ على الوعي قبل أن تكون حربًا على الأرض.

حربٌ على ما تبقّى من أحرارٍ في هذا العالم ما زالوا يملكون القدرة على السؤال:

من يرسم خريطة الدم هذه؟ ومن المستفيد من استمرارها؟

قد تُعلن الهدنة، وقد تُفتح المعابر مؤقتًا، لكن المشروع لم يتوقف.

فكل جولة عنفٍ، وكل “مرحلة سلام”، ليست سوى تعديلٍ في إيقاع مشروعٍ أكبر اسمه إعادة تشكيل الشرق الأوسط.

في النهاية

الحرب على غزة ليست حدثًا عابرًا، بل مرآةٌ تعكس وجه العالم الحقيقي:

عالمٌ يرفع شعارات الحرية بينما يصمت أمام المجازر،

ويطالب بالسلام بينما يموّل السلاح،

ويتحدث عن الإنسانية بينما يبرّر قتل الأطفال.

لهذا، لا يمكننا القول إن الحرب انتهت.

لأنها ببساطة… لم تبدأ في غزة، بل بدأت منذ أن قرر العالم أن العدالة تُقاس بالقوة لا بالحق.

فاتنة علي-لبنان