أحمد الله أنني لست برجل قانون دولي ، ولست برجل أي قانون بالمطلق ، ليس لكره في نفسي للقانون بل لإحترامي القوانين التي تنطبق على الأفراد والجماعات والدول والأمم دون تمييز وهي كثيرة إلى درجة أنها تملأ الكتب وزناً وتملأ القلوب حسرة لأن القوانين ، الدولية منها تحديداً ، نظمت لمصلحة الدول القوية ضد الدول الضعيفة في هيئة صنعت أساساً لنصرة المظلوم وإحقاق الحق ولكن من صنعها أرادها كلمة حق يراد بها باطل ويساعد الظالم على التمادي في الظلم .
تأسست الأمم المتحدة وفقاً لرغبة مجموعة الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وأعطت نفسها حرية السيطرة على المنظمة من خلال الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بحيث أصبح هذا المجلس أداة إستعمارية جديدة لإستبدال مجموعة الدول الإستعمارية التي كانت تعمل منفردة إلى تجميع للدول الإستعمارية لتعمل يداً واحدة بدلاً من العمل بشكل متفرق ، فمنها من كان يحكم نصف العالم مثل بريطانيا وفرنسا وأدركوا أنه يخسرون مستعمراتهم ، ومنها من ليس لديها مستعمرات ولكنها خرجت قوية من الحرب وبحاجة لصرف القوة وتحويلها إلى مغانم ، وما بين هذا وذاك تقاطعت أهداف المستعمرين والمستكبرين بحاجتهم إلى دول تدور في كنفهم وتأتمر بأمرهم ولكن كان لا بد من تغيير الأسلوب والمنهاج الذي يمكن من خلاله السيطرة على الدول المستضعفة والتحكم بمصائرها ، وكان لزاماً إنهاء الإستعمار المباشر وتحويله إلى إستعمار غير مباشر بأدوات غير عسكرية ومختلفة فتفقت في ذهن المستعمر فكرة الأمم المتحدة ونصب نفسه “شيخ الكار” عليها فأصبحت الأمم المتحدة هي الأداة الإستعمارية الجديدة ولا مانع من أن يتم إختراع عشرات الدول الصغيرة طالما أنها تدور في فلك الدول الإستعمارية فأنتج هذا النظام دولاً هزيلة خرجت من تقسيمات جغرافية على هوى المستعمر أو تمت صناعتها فعلياً من خلال خلق مشكلة لم تكن موجودة سابقاً والتسبب بهلاك مجموعة من السكان لتتدخل الأمم المتحدة وتمنحها الإستقلال (مثال ما حدث في إندونيسيا وإنتاج تيمور الشرقية وإقليم أتشيه) وتمنح نفسها حق الإستغلال بأن تضيف دولة أخرى إلى الدول الأعضاء التي تدين لها بالوجود والبقاء ، أو بالتخلي عن جزيرة كانت مهجورة في أقصى الأرض ثم تحولت إلى قاعدة عسكرية وتم إحضار بعض الفقراء لخدمة القاعدة ثم تحويلها إلى دولة تابعة أخرى ، وإستمر ذلك في القرن الواحد والعشرين كان آخرها عام 2011 ، وتجلت مؤامرات الإستعمار الجديد في صناعة دولة تسمى إسرائيل وحمايتها والتغاضي عن جرائمها ، لا بل بدعمها المتواصل ومساندة عدوانها ومساندة تحديها لكل القوانين والأعراف والقرارات التي تصدرها الأمم المتحدة نفسها ، وبذلك فقد لخص هذا الكيان جميع أهداف المستعمر وتطلعاته وأساليبه في قهر الشعوب وأعاد الإستعمار إنتاج نفسه ومنح الكيان الغطرسة والقوة التي كان يملكها بحيث أصبحت فوق القانون وأصبحت آخر معقل للكولونيالية على وجه الأرض فلم تنفذ أي قرار أممي سابقاً.
تقوم بنية الأمم المتحدة حالياً على عضوية 191 دولة كاملة العضوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة ، منها 35 دولة يقل عدد سكان كل منها عن مليون نسمة وأقلها يبلغ عدد سكانها أقل من 40,000 نسمة ، أي أقل من عدد سكان حي في مدينة صغيرة ، ومساحتها أصغر من أن ترى على خارطة العالم دون تكبيرها عشرات المرات ( مثل… إندورا ، مايكرونيزيا ، جزر مارشال ، كيرباتي ، سان مارينو … وغيرهم) ولكل من هذه الدول صوت واحد في الجمعية العامة التي تنتخب أيضاً الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن ، وعددهم 10 دول ، حسب التوزيع الجغرافي والتدوير ، وسيؤدي ذلك بالطبع إلى وصول بعض الدول الصغيرة ، أو أشباه الدول ، إلى مجلس الأمن الدولي وأن يكون لها رأي في مصير شعوب أكبر منها بعشرات المرات ، وهناك ثلاث دول أعضاء في مجلس الأمن حالياً ممن ينطبق عليهم هذه الوصف ، أصغرها غويانا وعدد سكانها 860,000 نسمة صاحبة قرار يساوي قرار روسيا الإتحادية (بمعزل عن الفيتو بالطبع).
أين الحكمة والمنطق في أن دولة يبلغ عدد سكانها 40,000 نسمة ومساحتها بمساحة مزرعة يكون لها رأي فيما يجري في الهند ، أو ما يجري في لبنان ، أو ما يجري في فلسطين مثلاً؟ وكيف يمكن أن تصوت على قرارات تحدد مصير شعوب أكبر وأعرق وأقدم منها بما لا يقارن ، أو حتى أن يكون لها رأي مساوي لرأي الهند (مقارنة بالمساحة وعدد السكان)؟
أين الحكمة والمنطق في أن يكون لدولة صوت يقرر مصير بلدان وشعوب تبعد عنها آلاف الفراسخ ولا تعرف أين تقع ومن الذي يسكنها ولا تعرف عنها شيئاً ولا تعرف عدد سكانها ولا تعرف لغتها ولا تركيبتها الإجتماعية ولا تاريخها ؟
أين الحكمة والمنطق في أن يكون لجزيرة كانت مهجورة وصنع منها المستعمر دولة رأي في مصير دولة علمت العالم الكتابة وأقامت دولا وممالك قبل أن تظهر الجزيرة في وسط المحيط؟
لا أنتقص من سيادة وكرامة أي دولة ولكنني أفهم أن يكون لتلك الدول رأي في حدود مجالها الحيوي والجغرافي وحتى الجيوبوليتيكي ، ولكن ليس في أقصى الأرض.
كل هذا ليس بجديد لدى كل ذي بصيرة ولكن الجديد هنا هو إثارة الدعوة إلى التخلص من هذا النظام والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية من أفراد ومنظمات ودول تدعو لإصلاح نظام الأمم المتحدة بحيث يفرز تعاملاً أكثر عدلاً مع الدول والشعوب “الأقل حظاً” ولكن كيف يمكن أن يمر أي إصلاح بوجود المستكبرين وهل يمكن لأي من أدوات السيطرة والهيمنة أن تترك فرائسها تفلت من مخالبها ؟ إذا حصل أي إصلاح فسيكون دائماً على حساب الطرف الأضعف وستبقى الدول المستكبرة فلا يمكن لأنها ستتنازل عن مصادر قوتها وهذا يدفعنا للقول أن إصلاح هذه المنظومة مستحيل في ظل الأوضاع القائمة.
إذن الحل يكمن في إنشاء منظمة بديلة تضم الدول التي تبحث الأمان من خلال الحق وتطبيقه ، ويكون لها ما يشبه مجلس أمن وقوات وجيش يقف في وجه المستكبرين ولن يكون هذا سهلاً لأن الإمبراطوريات لا تتنازل ولا تستسلم بسهولة حتى عندما تضعف وتظهر النهاية وشيكة ، وهي تعلم أن إنشاء منظمة بديلة/ موازية تمثل سحب مصادر القوة المتمثلة في الأمم المتحدة والفيتو والقوة بالنسبة لها هي مصدر للشرعية العالمية وبدونها ستسقط سقوطاً حراً ولن تتخلى عن مصادر قوتها بل ستحاول بشتى الوسائل منع الدول التي تدور فلكها من الإنضمام للمنظمة الجديدة وبالنتيجة يمكن أن تنضم الدول تدريجياً مع المحافظة على عضويتها في المنظمة الحالية .
ليس من الحكمة الدعوة إلى مقاطعة الأمم المتحدة فقد جرب الإتحاد السوفيتي هذا الأمر بين شهري يناير-اغسطس عام 1950 لمدة سبعة شهور تقريباً كانت نتيجتها تفرد الولايات المتحدة وإستصدار قرار بشن حرب دولية على كوريا تحت علم الأمم المتحدة في يونيو من نفس العام ، فوجود هذه المنظمة بشكلها الحالي يفرز بعض الضوابط ، ولو كانت محدودة ، على تصرفات الإستكبار العالمي ، بالإضافة إلى وجود مؤسسات مفيدة ضمن هذه الهيئة على شاكلة اليونسكو واليونيسيف تفيد بعض المستضعفين في الأرض ولو أن إمبراطورية الشر الأمريكية تبذل الغالي والنفيس للسيطرة عليها .
هذا المسار طويل ويحتاج الكثير من الجهود على مستوى الدول أولاً ولا أستطيع أن أتكهن بالسبب وراء عدم طرحه من أفضل الدول المرشحة لحراك كهذا مثل روسيا الإتحادية والصين إلا إذا كانوا يرون أن الوضع الحالي أفضل لهم وهو ما أشك به ، ويبقى الأمل معقوداً في الإرادة التي لا تلين ولا تضعف.
زياد زكريا – عضو الأمانة العامة لمنتدى سيف القدس