سنتا طوفان وبراكين وزلازل… أبرز الخلاصات (1)
– عرف العالم خلال سنتين واحدة من أهم وأخطر وأكبر وأطول الحروب المعاصرة، حيث لم يسبق لحرب أخرى أن تحوّلت إلى عامل فعل سياسي محلي في كل دول العالم، كما حدث مع الحرب التي اندلعت عقب طوفان الأقصى، حيث يُعاد تركيب المشهد السياسي المحلي والدولي للحكومات الأوروبية على إيقاع القضية الفلسطينية واصطفافات حرب الطوفان، بعدما تحوّلت إلى حرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني، ولم يسبق لحرب أخرى أن أعادت فك وتركيب المشهد الإقليمي في أكثر مناطق العالم غنى بالثروات وأهمية بالممرات التجارية وحيوية بموارد الطاقة، كما لم يسبق لحرب أن أظهرت قدرة فصيل سياسيّ صغير في شعب صغير كما هو حال حماس وحركات المقاومة في غزة، على فرض المعادلات والصمود دون دعم أي من القوى العالمية الكبرى، وصولاً إلى الاعتراف به مفاوضاً كما يجري الآن في شرم الشيخ مع إرسال الرئيس الأميركي دونالد ترامب لأقرب المبعوثين إليه لمفاوضة حركة حماس، ولم يسبق لحرب أن صنعت المعادلة الإعلامية وسيطرت على مكانة الحدث الأول، وانتصرت فيها رواية الضعفاء على الأقوياء، وبقيت محور الاهتمام العالمي مقارنة بكل ما جرى ويجري من أحداث، بما في ذلك حرب أوكرانيا التي يصطف فيها حلف الناتو على ضفة وروسيا على ضفة، وكلها قوى نوويّة وتمتلك عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي.
– هذا الحدث العالمي الكبير لم ينته بعد، هو بدأ كطوفان وتسبّب بتفجير براكين وأطلق زلازل لا زالت هزاتها الارتداديّة مستمرة، يستحق مع مرور عامين محاولة استخلاص أبرز ما كتبته الوقائع والأحداث خلال مساره، والأكيد أن ما شهدناه غيّر الكثير من المفاهيم، وقلب الكثير من المعادلات، وكي لا يفهم أن المقصود فقط ما لحق بـ”إسرائيل” من أضرار كبرى واستراتيجية، يمكن أن نورد أمثلة معاكسة، فما حملته السنتان قال إن نظرية تلازم “إسرائيل” مع الحروب القصيرة وعجزها عن تحمل خوض حرب طويلة سقطت، كما سقطت الفرضية القائلة بأن الصمود في حرب مع “إسرائيل” لشهور قليلة يكفي لتفجير حروب إقليمية تدخلها دول المنطقة، كما سقطت فرضية عدم قدرة “إسرائيل” على مواصلة حرب تكبدها خسائر ضخمة بشرياً واقتصادياً، وها هي تستمر لسنتين في حرب لا تعبر الأرقام الرسمية الإسرائيلية عن حجم الخسائر إلا عن نسبة ضئيلة جداً منها، وسقطت نظرية تفادي “إسرائيل” للحرب الكبرى سواء مع قوى المقاومة أو مع إيران، وقد فعلت.
– لكن إلى جانب كل هذا حملت الحرب الكثير من الخلاصات المعاكسة، وعن “إسرائيل” أيضاً، فقد انتهى الى غير رجعة الحديث عن فرادة قدرة القوات البرية الإسرائيلية، التي سقطت هيبتها يوم الطوفان الأول، ثم سقطت بصورة مدوّية وهي تملك زمام المبادرة وقدرة المباغتة، عندما واجهت المقاومة اللبنانية لستين يوماً على الحافة الأمامية في جنوب لبنان وعجزت عن إحداث أي اختراق يُذكر، ثم تمرّغت سمعتها بالوحل في حرب ممتدة لسنتين في مدن غزة ومخيماتها أمام مقدرات متواضعة لقوى المقاومة في غزة، وترتب على هذا الفشل تآكل الهيكلية البشرية للقوات البرية، كما تقول نداءات رؤساء الأركان المتعاقبين عن الحاجة للترميم والنقاهة وإعادة التركيب ودعوات التجنيد والحديث عن نقص هائل في الكوادر والعديد، ودمرت الروح القتالية لهذه القوات، مع تقارير تتحدث عن عشرات آلاف المصابين بصدمات تجعلهم زواراً دائمين للعيادات النفسية وتخرجهم من الخدمة كجنود موثوقين، ومع القوات البرية تلقت سمعة السلاح الإسرائيلي إصابات بالغة، خصوصاً دبابة الميركافا والقبة الحديدية، وانعكس ذلك على مبيعات هذا النوع من الأسلحة.
– بالمقابل ظهر أن القدرة الاستخبارية والتكنولوجية لجيش الاحتلال قد حققت تطوّراً كبيراً ونجحت بتحقيق إنجازات كبرى خصوصاً في عمليات الاختراق كما قالت عملية تفجير أجهزة البيجر في لبنان، والاغتيالات وصولاً لاغتيال كبار القادة وعلى رأسهم الشهيد السيد حسن نصرالله، لكن أيضاً انتهى زمن الحديث عن “إسرائيل” التي تصنع كل ما تحتاجه من سلاح وذخيرة وقد ظهر أنّها لا تصنع غير الميركافا التي تستورد محركاتها من ألمانيا وقذائف مدافعها من أميركا، وانتهى زمن الحديث عن قدرة “إسرائيل” على خوض الحرب دون أميركا، ليس للحماية القانونية والدبلوماسية فقط، ولا أيضاً الإمداد بالسلاح والذخيرة والمال فقط، بل أيضاً للقتال مباشرة في الدفاع والهجوم، حيث كانت أميركا الأساس في صدّ الصواريخ الإيرانية التي تسببت رغم ذلك بتهديد وجودي لـ”إسرائيل” دفعها لطلب وقف الحرب، إضافة إلى اضطرار أميركا إلى المشاركة في الغارات الهجومية على المفاعلات النووية.
– لم تظهر الحرب أهمية “إسرائيل” عند أميركا فقط، بل عند الغرب كله الذي هبّ لنصرتها ومساندتها، كما قالت زيارات كل قادة الغرب لشدّ أزر قادة الكيان بعد كارثة الطوفان التي أصابتها، وإذا كان قادة أوروبا قد أجبروا تحت ضغط شوارعهم للتموضع في سياقات أخرى نتحدث عنها في الحلقات القادمة، فإن ذلك لا ينفي أن “إسرائيل” ظهرت
أضعف من مستوى مزاعمها بالقدرة على خوض الحروب منفردة، مع شكوك كبرى حول أن الأعمال الكبرى التي غيّرت في اتجاهات الحرب، مثل الاغتيالات النوعية، والضربات الاستخبارية النوعية مثل البيجر، كانت مساهمة أميركية تلت استغاثة نتنياهو أمام الكونغرس وفي لقاءاته خلال زيارته نهاية شهر تموز 2024، بكلمة “ان هزمنا هزمتم”، وقد تلتها خلال شهر كل هذه التحولات الكبرى التي يستحيل تصديق أنها كانت في خزائن نتنياهو وقد نام عليها شهوراً وهو يتلقى الضربات الموجعة، وتذكر استخدامها وتفعيلها بعد عودته من واشنطن فوراً، ولا يغير من هذا الاستنتاج الأفلام الهوليودية التي ينتجها نتنياهو عن بطولات البيجر ونسخته الذهبية المهداة للرئيس ترامب أو عن سيناريوهات خرافية لعمليات الاغتيال، بل يزيد التباهي الشكوك بالصدقيّة.
ناصر قنديل