(أصوات بعيدة لأزيز الريح تختلط بأنين مكتوم. امرأة في منتصف المكان ترتدي ثوبًا فلسطينيًا مُطرّزًا وكوفية. وجهها شاحب، عيناها غائرتان، وكتفاها منحنية. أمامها امرأة أخرى تكسوها السواد، تجلس على الأرض. مشحونة، الهواء ثقيل، وكأن الزمن متوقف)
– ما بكِ شاردة الذهن يكسوكِ الشحوب؟ ما بكِ فقد أتعبَ البكاء صدركِ… ولقد أرق التفكير عيونكِ… ما بكِ غائبةَ عن الوعي… تحركي فقد أثقلك الجلاد بضرباته… مالكِ لا تتأوهين ولا تتألمين كما كنتِ تفعلين؟ ألهذه الدرجة غاب عقلكِ عني؟ وكأنكِ تلومينني على كل ما حصل؟ وكأنني لم أعد أعطيكِ أيّاً من الأمل! ما بكِ تحدثي معي… انظري إلي ولو قليلاً… لقد ذاب جمالك المخضب بالأحمر… انظري إلي…
(صمت ثقيل يلف المكان، كأن الأنفاس محبوسة. فالجميلة الشاحبة لا تتحرك إلا قليلاً، يداها ترتعشان، نظرتها زائغة. شمس الغروب تلألئ عينيها)
فَنَظَرَت إليها والصمت يملَؤها… ودمعة عينٍ سابحة في الجفون لا تنزل… وأطالت النظر
فاقتربت منها الأخرى قليلاً، ومالت برأسها إليها، وبكل رقة وحنان وهدوء يستجلب الحزن
– وأخيراً؟ تسمعيني؟ فقد مضت السنة وأنا هنا جالسة أنتظر أن أشعر بأني معكِ… تحدثي إلي… فإنه لم يحدث أبداً أن تكوني بدوني ولستُ أؤَملك بشيء… ألم أكن دائماً أنينُكِ وبكاؤك؟ ألم أكن دائماً جوعك وجراحك؟ ألم أكن دائماً من يبث فيكِ روح الحياة والمقاومة؟ ما الذي حدث لكِ؟
فأزاحت الجميلة الشاحبة بنظرها عنها ونظرت إلى الشمال… وصمتت حتى سالت من عينها تلك الدمعة السابحة… ذرفت على خدها حتى سقطت على التراب… وتنهدت برجفة ثقيلة وكأن تلك الدمعة تحمل فيها من العبء ما كان يحبس الأنفاس
مدت الأخرى يدها وكأنها تريد الإمساك بالدمعة قبل أن تسقط:
– سأظل هنا منتظرة… ولن أغادر… لن أغادر حتى تتحدثي وتخبريني ما بك… إنني أستطيع أن أعرف في قرارة نفسي أن الجلادَ لم يعد يعنيكِ… وأن هماً كبيراً قد أحاطَ بكِ… إنني لا أعرف بماذا أسميه… هماً؟ فهو واحدة من أشكالي… وأنت لا تستمعينَ إلي… هل هناك شئٌ غيري في الحياة يمكن أن يعتريكِ لتصمتي؟ أو لتنزل منكِ الدمعة؟ إنني لم أعهد هذا في تاريخنا من قبل… إنني بدأت الشك في نفسي… فمن أكون إن لم تكن أنا من تحمل تلك الدمعة من عيونك لتدفئ بها التراب؟! من أكون أنا إن لم أكن السبب في صمتك؟ من أكون أنا إن لم أكن من يسير بكِ نحو الحقيقة والمضي قدماً… ألم أكن أنا دائماً سبب الألم؟
فخيّم صمتٌ قصير، حتى همست الجميلة همسا، وخرجت الحروف من صدرها بثقل شديد.
– نعم
فذهِلت الأخرى وقالت باندفاع
– ها أنتِ تتحدثين… ماذا نعم؟ هل هو هم آخر غيري؟ لا يوجد غيري؟ هل هناك أحدٌ غيري؟ هل أنا ما زلتُ أنا؟ هل أنا من حمل الدمعة إلى التراب؟ أم أنني أنا من كان سبب الألم والأمل؟ تحدثي إلي فأنا لأول مرة أشعر بأني… بأني بأني أريد أن أفعل أشياءً ولكن حركتي ثقيلة…
– تتحدثين عن التعب؟! هذا هو التعب… كيف تتعبين يا “أحزان”؟ أليس التعب شكلاً من الأحزان؟
– هذا هو التعب؟!! نعم تعبت… ولأول مرةٍ أتعب… إن صمتكِ ثقيلٌ جداً لم أعهده… فأنا لم أعد أنا… إنني أشعر بأشياءَ معقدةٍ أخرى لا أفهمها… مشاعر لا يمكن وصفها… لا أعرف هذه المشاعر… هل هكذا تشعرين كلما أخيمُ عليكِ وأظللكِ بالدموع؟!
– أرى أنكِ يا أحزانُ قد بدأتِ تفهمين، فمشاعري التي تخيمين بها علي وتظللينني بها كانت تتعبني، ولكنها كانت تقودني للفهم كذلك.
– ولكن… كيف تصمتين وتذرفين الدمع بدوني؟! كيف يصيبك الشحوب بدوني؟ ليس غيري يفعل ذلك، ليس غيري أنا الأحزان من يفعل ذلك!!!
– نعم ليس غيرك يفعل ذلك
– كيف هذا وقد ذبلتِ ونحلتِ؟ أليست تلك أنا؟ أليست تلك أحزان؟
– بل ذلك أمرٌ لا نعرفه ولا نفهمه، لا أنتِ ولا أنا، فإن ما يصيبني الآن يفوق الأحزان
– وكيف ذلك؟
– لقد رحل… لقد رحل يا أحزان…
– الرحيل؟ أعرفه؟ وهو واحدةٌ من أشكالي أيضا.
– كلا يا أحزان… اخترت كلمة الرحيل لأنني أعرفها فقط… لكن الشعور في حقيقته يشبه شيئاً كالرحيل…هو رحيل ولكنه مستمر لا ينقطع…
– ماذا؟!!
– نعم: يظل يرحل ويرحل حتى أن بحة صوته تظل عالقة في صدري… وكأنني إذا ما استعدت أنفاسي وتحدث إلى الناس يوماً فكأنني هو
فهبت رياح رفعت أطراف الكوفية، فنظرت الجميلة الشاحبة إلى الأحزان، ووقفت، لم تعد يداها ترتجفان… ومضت وظلها يمتد خلفها وكأن شمس الغروب قد ظلت هناك تنتظرها حتى تقوم… حتى تعود إلى مشرقها
– فلسطين… لا أفهمكِ… أين تذهبين؟ انتظري… أين تذهبين؟
– ذاهبة إلى الشمال… ويسمونه الجنوب كذلك
فوقفت “الأحزان” شاخصة يائسةً وقد حان الغروب… و”فلسطين” تمضي شمالاً… ويسمونه الجنوب كذلك
آدم السرطاوي – كندا
(إلى روح سيد الشمال والجنوب… فلسطين والأحزان تبكيك… وإليك نمضي)
صورة الغلاف: بشائر النصر – أ. ناصر قنديل