العِرقبادة تُجبر الغزاويين على الرحيل قسراً نحو المجهول
مكرم خوري مخول
قهراً وليس بخاطري.. اضطررت وأسرتي لمغادرة شقتنا في مدينة غزة، الخميس الماضي. حملنا متاعنا- أو ما تبقى لنا من متاع- ودفعنا تكاليف فاقت ما نملكه، وسرنا مسافة تجاوزت السبع ساعات؛ تحت لهيب الشمس وظلام الليل ووعرة الطريق الذي جرفته دبابات العدو النازي مراراً وتكراراً“.
هذا أحد أوجه جريمة العِرقبادة (التطهير العرقي والإبادة الجماعية) التي يتعرض لها أهالي قطاع غزة منذ سنتين.
قال لي صديقي الغزاوي: “لقد أجبرونا على الرحيل! خرجت وعائلتي- ومعنا كل سكان الحي – طبعنا قبلات الوداع على جدران منازلنا- أو ما بقي منها- والتي كنّا رمَّمناها بعد القصف الأول والنزوح الأول، وقد تركنا أرواحنا معلَّقة على عتبات الديار وشرفاتها وأبوابها.. النزوح يشبه نزع الروح من الجسد يا صديقي!”.
وأضاف صديقي- محاولاً المزاح قهراً- “طهروا منطقتنا منّا”، في إشارة منه إلى جريمة التطهير العرقي ديموغرافياً عندما يعمد العدو إلى إخلاء منطقة سكنية من أهاليها بالقوة.
وتابع: “خرجنا مُكرهين ومُجبرين؛ لم نستطع أن نحمل سوى بعض الأمتعة الخفيفة جداً.. العدو لم يمهلنا سوى دقائق، والدرب طويل، وعلينا أن نقطعه على أقدامنا، وبوجود الأطفال والعجائز والمرضى يصبح الرحيل أكثر مرارة..
ويا خوفنا عندما يهطل المطر ويبدأ موسم البرد والعواصف، فليس لدينا ما يمكن أن يقينا، ونحن عاجزين”. “قالوا لنا إرحلوا!
وأشاروا إلى المجهول.. إلى بقعة جغرافية يقول عنها العدو‘إنها آمنة‘؛ وهل بقي هناك من أمان؟ كل بقعة في قطاع معرضة للقصف الجوي والبري والبحري..
ولا توجد بقعة واحدة بمأمن عن رصاص القنص وصواريخ المسيَّرات الحربية..
كحال كل مناطق فلسطين!”.
“هذا هو حالي يا صديقي، وحال آلاف الأسر التي رافقتني وعائلتي الطريق- من شمال غزة إلى وسطها.
كدنا نموت على طريق الترحال تعباً وجوعاً وعطشاً، وقد روت دموعنا تراب الطريق الوعر التي حملتنا.
كانت رحلة عذاب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فما بالك بشخص مريض قلب مثلي؟”! “أعلم أنك ستسأل عن الغذاء.
نعم، نحن نتناول وجبة واحدة فقط في اليوم: شيئاً من المعلبات، وبعض الخضار البسيطة والخبز. نعيش العذاب وقسوة الحياة والنزوح كل لحظة”.
“بكل أمانة صديقي لم أكن لأخرج من بيتنا في مدينة غزة وتذكرت ما كنت قد كتبته انت عن جدتك الراحلة مدام خوري أثناء النكبة، في ربيع 1948، وكيف أنها رفضت أن تُطرد من بيتها رغم نزوح أغلبية سكان يافا.
ولكن اختيار حياة النزوح في حالتنا جاء بحثاً عن الأمان لأسرتي وأطفالي.
إنها رحلة عذاب من الصباح حتى المساء ولا نعرف كيف سيبدو نهارنا يوم غد- هذا إذا كُتب لنا أن نرى شمس الصباح”.
“هل تعلم يا صديقي أن النزوح هو أصعب تجربة يمكن أن يمرَّ بها أي إنسان؟ يا الله لو ترى حال الناس في غزة.. يموتون ألف مرة كل يوم.. ومع كل مرة ينزحون فيها..
الحجر يبكي عليهم بينما العالم تاركهم لقدرهم.
أقسم بالله اننا شعبٌ يستحقُ الحياة.
أطلب من ابنك أن يستمر بالصلاة والدعاء من أجل سلامتنا، لعلَّ الله يستجيب عندما تُرفع الصلوات من عندكم – من ‘أمّ بـلفـور‘ (انكلترا)، كما أسميتوها”! محبتنا لكم.
أخوكم ،، نازح ابن نازح