لا يخفى على أحدٍ أنَّ المشروع الصهيوأمريكي يمتلك قوةً عسكريةً، واقتصاديةً، وإعلاميةً هائلةً، وكون هذا المشروع ينحدر من الأيديولوجيا الإمبريالية الوحشية، فهو بالتالي سيوظِّف هذه القوة في السيطرة على شعوب وثروات ودول العالم، إن كان من خلال الاحتلال الكلاسيكي المباشر، أو عن طريق استخدام أساليب هيمنةٍ أخرى تخدم مطامعه.
وتمتاز منطقتُنا العربيةُ بموقعٍ جغرافيٍّ استراتيجيٍّ غنيٍّ بالثروات، مما جعلها من المناطق التي على رأس سلّم أولويات المطامع الإمبريالية.
استند المشروع الصهيوأمريكي بشكلٍ كبيرٍ في منطقتنا على زرع حليفٍ كولونياليٍّ داخل فلسطين، وتمَّ دعمه عسكريًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا أيضًا. إذ ما لبثت العصاباتُ الصهيونية أن قتلت، وذبحت، وهجَّرت الشعب الفلسطيني عام 1948، إلّا وجلبت له الإمبريالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، اعترافًا دوليًّا من شتّى دول العالم. وأصبح يشكّل هذا الحليفُ قاعدةً عسكريةً للإمبريالية في قلب الوطن العربي، تكون مجديةً بشكلٍ أكبر من نشر حاملات الطائرات في محيطات وبحار منطقتنا.
كما عملت الإمبريالية على إيصال زعاماتٍ مواليةٍ لها في باقي الدول العربية، أما الدول التي كانت تفشل خطتُها بها، وتتزعمها قياداتٌ وطنيةٌ، فكان يتمّ التدخّل العسكري الكلاسيكي المباشر فيها حتى تغيير الحكم، أو من خلال تمويل جهاتٍ محليةٍ عميلةٍ تتكفّل بذلك.
واستندت الإمبريالية بشكلٍ كبيرٍ إلى خطةِ الفوضى الخلّاقة، وإثارةِ النَّعرات الطائفية، والمذهبية، والقبلية، لتقسيمِ الدول وفرزِها على أساسٍ إما طائفيٍّ أو قبليٍّ، مستغلّةً في تحقيقِ ذلك فَهمَ الشعوبِ الخاطئَ للهُوية، فتمَّ حرفُ بوصلتِها عن الفكرةِ الوطنيةِ الجامعة، مما أدّى إلى إضعافِها وجعلِها لقمةً سائغةً بين فكَّيِ المطامعِ الإمبريالية.
وأما مؤخرًا، ومع التطوّرِ التكنولوجيِّ والتقنيِّ، ومع انتشارِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، فقد مارست الإمبرياليةُ على شعوبِ منطقتِنا حربَ أفيونٍ من نوعٍ آخرَ، أكثرَ فتكًا، من خلال تصديرِ “نظام التفاهة” لاحتلالِ روحِ المواطنِ العربي، بعدما تمّ احتلالُ أرضِه ونهبُ ثرواتِه؛ فالأولى تُنسيه الثانية، ويُصبح بذلك عاجزًا عن المواجهة، غارقًا في الترهات، ويُصبح التافهون أسيادَ المجتمعات، والمثقفون على الهامش.
لماذا تحصد أغاني المدعو “حمو بيكا” عددَ مشاهداتٍ أكثر بكثيرٍ من أغاني السيدة فيروز؟!
إلى أين نحن ذاهبون؟!
لكن، كما يوجد شرٌّ، يوجد خير، وكما توجد خططٌ خبيثة، يوجد وعي؛ حيث خرجت في منطقتِنا العديدُ من التيارات، والأحزاب، والدول أحيانًا، سواءٌ كانت إسلاميةً، أو قوميةً، أو يساريةً، أو غيرها، لمناهضةِ هذا المشروعِ الصهيوأمريكي، ورفضت أن تخضع له.
وشكّلت هذه التياراتُ، والأحزابُ، والدولُ المناهضةُ والمقاومة عقبةً أمام المشروعِ الصهيوأمريكي، وهدّدت وجودَه. ونتيجةً لذلك، كرّس المشروعُ الصهيوأمريكي كلَّ ما يملك من قوّتِه وخططِه الخبيثةِ المذكورةِ أعلاه من أجل محاربتِها، فاستخدم إعلامَه لشيطنتِها، وفرّق مجتمعاتِها، وقسّمها إلى فِرَقٍ متناحرة، وفرض عليها عقوباتٍ اقتصاديةً، ووجّه الضرباتِ العسكريةَ لكلّ جهةٍ مقاومةٍ محاولًا ردعَها.
ولكونِ المشروعِ الصهيوأمريكي رأسَ الإرهابِ في العالم، كان يُكثّف من عمليّاته العسكريةِ في تدميرِ البنيةِ التحتية، واستهدافِ المدنيين من الأطفالِ والنساءِ والشيوخ، لإضعافِ القاعدةِ الشعبيةِ لهذه المقاومة، التي لا نُنكر أيضًا أنها تعرّضت لضرباتٍ عسكريةٍ قويةٍ، واغتيل خيرةُ قادتِها.
ودائمًا ما كان المشروعُ الصهيوأمريكي يتعمّد، في خطّته للقضاء على المقاومة، استهدافَ القاعدةِ الشعبية، وخاصةً على الصعيدَين العسكري والاقتصادي. ثم يُكرّس إعلامَه لإطلاق بروباغندا تُحمّل المقاومةَ ذنبَ هذا الدمار، والقتل، والجوع، والفقر، ومن خلال أيضًا استخدامِ عملاءَ محليّين مدعومين على كافة الأصعدة، ليتبنّوا نفس الخطاب الذي كرّسه الإعلام، لإيهام الشعوب بأنّ ثُلّةَ العملاءِ المزروعين في منطقتِنا هم طريقُ الخلاص من هذا الدمار، الذي “تسبّبت به المقاومةُ المتهوّرة” حسب سرديّاتهم العميلة.
وبعد القضاء على المقاومة، لا قدّر الله، سيتمّ التخلّص من كافة العملاء، وإعلانُ قيام “إسرائيل الكبرى” ككيانٍ كبيرٍ تابعٍ للإمبريالية، ومن الممكن ألّا يعود مصطلحُ الكولونيالية يخدمُ الشكلَ الذي سيُصبح عليه هذا الكيانُ في حالةِ توسّعه.
وما يجري الآن هو أكبرُ دليلٍ على ما سبق؛ حيث إنّ الكيانَ الصهيونيَّ بات يُشكّل خطرًا على منطقتِنا بشكلٍ أكبرَ من أيِّ وقتٍ مضى.
فنحن نشاهد ممارساتِه في الضفّة وغزّة، وتهويدَه المستمرّ للقدس، وتوغّلَه المريبَ في سوريا، ورفضَه الانسحابَ من لبنان، واستهدافَه لإيران، وصولًا إلى استهدافِ قطر، رغم أنّها تمتاز بعلاقةٍ مميّزة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ مُعلِنًا بذلك أنّ إرهابَه لا يخضع لأيةِ خطوطٍ حمراء،علاوة على أنه أعلن بشكل واضح وصريح أنه يمضي قدما نحو تحقيق وهمه التلموذي الذي يسمى “إسرائيل الكبرى”
ويُواصل هو وعملاؤه في المنطقة، كما ذكرنا، شيطنةَ المقاومة، ومحاربتَها، وتوجيهَ الضرباتِ لها، وإضعافَ قاعدتِها الشعبيّةِ بشتى الطرق.
إنّ إراقةَ دمائنا بحدّ ذاتها تعتبر هدفًا لدى شياطينِ المشروعِ الصهيوأمريكي، فالقتلُ لأجلِ القتلِ عقيدةٌ لدى نتنياهو وترامب، وما يجري في غزة أكبرُ دليلٍ على ذلك. وها هما يمضيان قدمًا نحو تتويجِ مشروعهم الشيطاني بابتلاع الوطنِ العربي بعد حسمِ معركةِ غزة، وإقصاءِ من ساندها، مستخدمين الإرهابَ، وإبعادَ الشعوبِ عن الالتفافِ حول مقاومتهم كوسائلَ لتحقيق ذلك.
آنَ لشعوبِ منطقتنا نبذُ كلّ النزاعاتِ الطائفيةِ، والمذهبيةِ، والقبليةِ المقيتةِ، وعدمُ اتباعِ العملاءِ، والتسلّحُ بالوعي، والالتفافُ حول حركاتِ المقاومةِ ، واستهدافُ العدوّ الصهيوأمريكي في كلّ أماكنِ تواجدهِ بشتّى الوسائلِ المتاحةِ.
إذا كنا نعيش في العصرِ الأمريكي، كما يقولون، فالشعبُ العربيُّ الحرُّ لن يكون عبدًا للمرحلةِ. وعلى الشعوبِ العربيةِ أن تتكاتفَ، وتلملمَ جراحَها، وتقولَ لهذا العدوّ وأذنابه:
“مهلاً، لم تنتهِ القصةُ ها هنا، أبدًا. ما زالت هذه الأرضُ تنجبُ فدائيينَ وأحرارًا.
“أبدًا، بلدنا للنهار بتحبّ موالَ النهار”…!
أبو الأمير ـ القدس