في السابع والعشرين من آب 2001، اغتالت طائرات الاحتلال الإسرائيلي الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، القائد أبو علي مصطفى، وهو في مكتبه في رام الله. لكنّ الحدث، برغم قسوته وفداحته، لم يتوقف عند لحظة الدم والانفجار؛ بل صار علامة فارقة في الوعي الفلسطيني والعربي، وفتح سؤالاً أوسع عن الزمن، والذاكرة، والاستمرار، هو زمن نوعي يتجاوز قياسات الزمن الكمية ليصبح حالة وجودية حية تتشابك فيها الفردانية والجماعية، الماضي والحاضر والمستقبل، الألم والأمل.
أبو علي الفلسطيني، في زمن فلسطين، أرض الإبادة والولادة؛ الطائرات تقصف، البيوت تُهدم، الشهداء والشواهد والكل يُغتالون، والأحلام تتعرض لمحاولة المحو والمسح اليومي.
ومع ذلك، كل موت يصبح ولادة، كل خراب يفتح نافذة جديدة، كل دم يسيل يتحوّل إلى شريان للمستقبل، وإن الزمن الفلسطيني لا يُقاس بالساعات بل بفلسطينيته. إن فلسطين بالنسبة إليه لم تكن خريطة على الورق ولا شعاراً يُرفع في المناسبات؛ كانت دماً في العروق، ووصية الأمهات، وأفقاً لا يُختصر. فلسطين هي الأرض التي تحفظ أسماء شهدائها كما تحفظ الأم أسماء أبنائها، وهي التاريخ الذي لا يموت مهما تغيّرت الوجوه والحدود.
وإن تعريف فلسطين لا يكون بمقاس المانحين: والدستور يُكتب بعد التحرير. هنا يحضر تحذير جورج حبش: «الاستقلال الوطني لا يُمنح والدولة مهمة كفاحية طويلة ولن تُستجدى من العدو، بل تُنتزع من قلب المعركة». بمعنى أن التحرير هو الشرط الأول، هو التربة التي تُزرع فيها الشرعية الحقيقية، والدستور حينها يكون عقداً بين الأحرار لا شرطاً يضعه الاستعمار.
في زمن أراده أبو علي مصطفى أن يكون كل جهد فيه مُسخَّراً لمواجهة سرطان الاستيطان، نجد البيروقراطية الخائبة تحرف الصراع إلى جدل عقيم حول شكل الحكم، هياكله، وصلاحياته. وكأنها تنسى أن الشرعية الحقيقية ليست في الدستور ولا في المناصب، بل في القدرة على البقاء، الصمود، وحماية الشعب الذي نصفه في الشتات. ما كان يمقته أبو علي بحسّه الثوري وصلابته ومبدئيته أن تضيع البوصلة حين يصبح الشكل غاية، ويذوب الجوهر، وتتآكل روح الثورة التي انطلقت من أجل التحرر الوطني والحرية المنشودة.
أبو علي القائد والشهيد والوصية والنشيد الذي طالما ردّده في المهرجانات الجماهيرية، كلماته كانت تجسد الزمن الفلسطيني، تشكل جسراً بين الحاضر والماضي والمستقبل، وتخبر كل من سمعه: كل خطوة لك في النضال هي استمرارية لقافلة الشهداء، وكل دم يسقط ليس نهاية، بل بداية جديدة. وهي كتبت على قبر الشهيد القائد وديع حداد في بغداد، الوصية المستمرة من كلمات الشاعر الفلسطيني ابن غزة معين بسيسو:
«أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح…
وانظر إلى شفتَيَّ أطبقتا على هوج الرياح
أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح…».
أبو علي الرفيق الذي علّم أن «الجبهة الشعبية» لم تكن طارئة على النسيج الوطني؛ هي امتداد في الزمن الفلسطيني، وجزء أصيل من العصب المركزي للمشروع التحرري الفلسطيني. في كل مفصل، تجدها تؤكد أن القضية ليست ملكاً حصرياً لتنظيم أو فصيل أو فرد، بل مشروع جماعي. من شوارع العالم الفسيحة من وراء المحيطات إلى الأزقة الضيقة في غزة، من مخيمات الشتات إلى ساحات الضفة، إلى مخيمات لبنان يوم تحوّلت أعمدة الخيام إلى بنادق.
وتستمر قافلة الشهداء، أبناء الفكرة، وكتائب أبو علي مصطفى، من قادتها الذين تقدّموا الصفوف بهامة وشموخ نضال عبد العال ونخوة أبو خليل وشاح وصلابة روح عماد ومفيد وعبد وأحد عشر كوكباً من شهداء الإسناد، وصولاً إلى كل اسم لم يُذكر بعد، كلهم يكرّسون معنى واحداً: أبو علي مصطفى ما زال في قلب المعركة، والقضية لن تمحوها نيران الإبادة، والمعركة مستمرة مهما تغيّرت الوجوه.
وتستمر قافلة الشهداء، أبناء الفكرة، وكتائب أبو علي مصطفى، من قادتها الذين تقدّموا الصفوف بهامة وشموخ نضال عبد العال ونخوة أبو خليل وشاح وصلابة روح عماد ومفيد وعبد وأحد عشر كوكباً من شهداء الإسناد، وصولاً إلى كل اسم لم يُذكر بعد
إنّ أخطر ما نواجهه اليوم هو انفصال الإنسان عن قضيته. حين تتحوّل الحياة إلى مجرد صراع من أجل البقاء، تنطفئ فكرة المعنى، ويتحوّل الإنسان إلى كائن وظيفي، بلا انتماء، بلا أثر. والمجتمعات التي تفقد حسّ الموقف، تفقد قدرتها على النهوض، لأنها تُنتج أجيالاً مدجّنة على الحذر، لا على الشجاعة.
أبو علي القائد المقاوم دون ادّعاء، الذي اعتبر بسطاء الناس هم الملح: وهو واحد منهم، مع الفلاح الذي يحرس زيتونه، المرأة التي تَحوك العلم بيديها، العامل الذي يحمل فلسطين في حقيبته، الطالب الذي يكتب على جدار مدرسته شعار الحرية. هؤلاء هم قلب المشروع النضالي، وهم من حافظوا على نبضه، حين خانته بعض السياسات، ظل وطنياً يسارياً ديمقراطياً مؤمناً بعروبته وفلسطينيته مهما عصفت الرياح وتنازعت الرايات.
وإنّ جغرافيا النضال لم تكن حكراً على مدينة أو قرية؛ كانت خارطة دم وحلم تمتد من عكا إلى رفح، من مخيمات لبنان إلى شوارع عمان ودمشق، وصولاً إلى العواصم التي استضافت الثورة أو حاصرتها. كل موقع كانت له بصمته: جبال الضفة، أنفاق غزة، شتات اللجوء، وساحات الأسر وأقبية الزنازين.
هو الوحدوي، الذي رأى أن الفصائل الفلسطينية جميعها، رغم اختلافاتها، كانت بالنسبة إليه أدوات لمعركة أكبر. الوحدة لم تكن شعاراً بل هدفاً استراتيجياً؛ وأن التشرذم هو أكبر هدية للاحتلال. لذلك ظل يرفع الصوت: فلسطين أكبر من كل الأسماء، وأكبر من كل الانقسامات، والشعب هو الجبهة الحقيقية، عندما كانت تجتمع الفصائل في مكتبه البسيط في مخيم اليرموك، تحت كلمات نشيد «موطني… موطني» المعلّقة على الحائط وداخل إطار خشبي بسيط. لم تكن مجرد كلمات على ورق، بل كانت نشيداً يختصر فلسفة عمره: الوطن قبل كل شيء، كل زائر، كل رفيق، كان يلمس في حديثه معنى المقاومة: الفعل يبدأ بالوعي أولاً.
حين نذكر أبو علي مصطفى اليوم، لا نودّعه، بل نقرأ رسالة مستمرة: دماؤه تحفر الطريق للأجيال القادمة، وصوته يردّد نشيده الوطن الخالد «موطني… موطني»:
«وَلَن نَكون لِلعِدى كَالعَبيد
لا نُريد
ذلّنا المُؤبّدا
وَعَيشنا المنكدا
لا نُريد
بَل نَعيد
مَجدَنا التَليد
مَوطني».
أبو علي مصطفى لم يكتب وصية بخط يده، لكن حياته كانت وصية مكتوبة لكل رفيق ولكل مناضل… أن المقاومة فعل جماعي، وليست ملكاً لفرد أو تنظيم، أن القيادة الثورية مسؤولية دائمة، تتوارث عبر الأجيال، أن الشهادة ليست نهاية، بل استمرارية.
هو المناضل الأممي على جبهة الإنسانية مع كل مَن يقاتل على جبهة السردية الفلسطينية، يبني التحالف في قلب المعركة، وعلى جبهة الواجب الإنساني والاشتباك التاريخي متواصل على كل مساحة الصراع في العالم. بالرغم من كل الألم والمعاناة، يبقى الزمن الفلسطيني زمناً يحمل بعداً إنسانياً عميقاً، زمناً يعبّر عن قضية الإنسان قبل كل شيء. كما قال غسان كنفاني: «الإنسان في نهاية الأمر قضية».
هذه العبارة تلخّص جوهر الزمن الفلسطيني، في عالمٍ أُفرغ من المعنى، سيؤكد أن الكلمة الحقيقية هي الفعل السياسي الأول. يطالب العالم بأن يرفض هندسة الجوع كما نرفض القصف، وأن غزة تحتاج إلى العدالة، لا تحتاج إلى الشفقة، بل إلى تفكيك النظام الذي يسحقها، ولكي نوقف الإبادة، علينا أن نسمّيها أولاً. ولكي نسمّيها، علينا أن نكسر صمت العالم، ونحطّم شرعية قاتليه. ولكي نحطّمهم، لا بد من إعادة بناء جبهة عالمية، فغزة لا تطلب البكاء، بل التضامن الجدي لكسر وهزيمة نظام الإبادة.
بقلم الرفيق مروان عبد العال* كاتب وروائي فلسطيني و فنان تشكيلي ، و عضو المكتب السياسي لـ« الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين »
