الخذلان ومعركة الوعي
يصعب على المرء أن يتخيل كم الخذلان الذي تتعرض له غزة من قبل القريب قبل البعيد، من قبل أخ في الوطن وأخ في الدين وأخ في المذهب ، بحيث لا يمكن ترك هذا الموضوع يمر مرور الكرام لا سيما عندما نتذكر جحافل الجماهير التي كانت تهدر سابقاً في عمان وبيروت ودمشق والقاهرة كلما طرأ حدث قومي يستدعي التكافل والوقوف في وجه ذلك الحدث ، وكذلك مع كل توجه من الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ، وكل ذلك في زمن ليس ببعيد مثل التصدي للعدوان الثلاثي عل مصر، إسقاط حلف بغداد ، مؤامرات أيلول الأسود ، زيارة السادات للكيان الصهيوني ، إجتياح الكيان الصهيوني للبنان ، وغيرها ، ولم تبخل الجماهير العربية يوماً في الوقوف مع الفلسطينيين والقضية المركزية وثوابتها وضد قوى الإستكبار والرجعية مجتمعة إلى أن وصلنا إلى آخر تحرك جماهيري طاغ إبان عدوان حلف الراغبين على العراق بهدف القضاء على نظام يجاهر بعداءه للكيان الصهيوني عام 1990-1991 (بإستثناء الربيع العربي الذي سنأتي على ذكره) فما الذي حدث منذ ذلك التاريخ ولماذا بدأت تخبو جذوة التضامن الشعبي إلى أن وصلنا إلى حالة من الموت السريري أمام أكبر عملية تدمير وقتل وتجويع في التاريخ؟ وما الذي أدى إلى هذا البرود أو بلادة الإحساس وأبشع مظاهر الخذلان؟ ولماذا تحركت الجماهير إبان الربيع العربي حتى مع العلم أنه لم يكن ربيعاً عربياً بل خريفاً صهيونياً؟
لو إفترضنا أن قمع الأنظمة قد شكل حالة من الرعب والخوف المرضي لدى الجماهير لقلنا أن هذا الإفتراض في غير محله وليس قابلاً للأخذ بعين الإعتبار بشكل مجرد ووحيد لدى النظر في الأمثلة التالية ؛
- لم يكن القمع في الساحة الأردنية سابقاً أقل مما هو عليه الآن بل كان هناك لغاية بضعة أشهر مضت مساحة من الحرية في التظاهر والتعبير عن الرأي في ساحة يشكل المواطنون من أصول فلسطينية فيها غالبية في المدن التي كانت تتحرك عادة.
- لم يكن القمع في الساحة اللبنانية يعادل أي من الدول العربية الأخرى حتى في قمة تسلط المكتب الثاني على الحريات وتلفيق التهم وكتم الأصوات على يد رئيسه جوني عبدو ولكن أسقطت الجماهير في لبنان محاولات كميل شمعون للترشح لولاية ثانية وقتلت طموحاته لتحويل لبنان إلى دولة تابعة لقوى الإستكبار ، ومع ذلك لا نرى حراك شعبي في لبنان حتى مع وجود القوة الأكبر لمحور المقاومة وجماهيرها المتمثلة في حزب الله ، مع الأخذ بعين الإعتبار للظروف الخاصة هفي هذه الساحة العزيزة على قلوبنا.
- يقتصر هذا الخذلان على الساحات العربية والإسلامية فقط عندما نرى الساحات العالمية حول العالم من أمريكا إلى أوروبا وآسيا في كوريا الجنوبية واليابان ، وإن غابت الهند عن التضامن لأسباب أخرى، مع أن معظم هذه الأنظمة لا تقل قمعاً عن الدول العربية ولكن بشكل أكثر أناقة لوجود ممثلين يرغبون في إعادة إنتخابهم وقوانين وحرية تعبير مضمونة في القانون وإن كانت شكلية في معظم الأحيان أو مزدوجة المعايير؟
هذا يشير إلى أن القمع وحده ليس سبباً كافياً كافياً لهذا الخذلان فأين الأسباب التي أوصلت الجماهير إلى هذه الحالة مع أن الحديث مع الناس بشكل فردي يؤكد وجود حالة شديدة من الغليان الشعبي غير المسبوق ؟
برأيي أن هناك عدد من الأسباب تنطبق على الساحات المحلية والإقليمية والعالمية إجتمعت في فترة محورية منذ عام 1990 – 1991 يمكن الحديث عنها بإختصار عبر النقاط التالية:
- هزيمة الإتحاد السوفييتي في أفغانستان وخروجه غير المشرف من الميدان وتحميل النصر الحاصل للقوى الإسلامية ممثلة في توابع الوهابية من تنظيمات القاعدة وطالبان بحيث تحولوا إلى مثال يبهر العامة.
- إنهيار منظومة الكتلة الإشتراكية التي كانت قبلة قوى التحرر وتراجع اليسار عالمياً ومن ضمنه قوى التحرر في المنطقة العربية إلى هامش الحياة السياسية يقابله بروز القطبية الواحدة ممثلة بالولايات المتحدة الأمريكية كقائد لقوى الإستكبار العالمي وإزدياد سطوتها ونفوذها في منطقتنا بحيث أصبحت تملي على الدول مسار سياسي لصالح الصهيونية حتى ضد مصلحة وبقاء تلك الدول من خلال منع أي نشاط يتعلق بمقاومة الصهيونية لا بل التطبيع مع الكيان الغاصب ، وإزدياد هذا النفوذ من خلال السيطرة الإقتصادية (ديون، غاز، كهرباء) على بعض الدول مثل مصر كدولة مطبعة تمنع التعبير عن الرأي وتمنع تأييد الحق الفلسطيني وكذلك الأردن كدولة مطبعة مشابهة والسودان مؤخراً ولو أنها حالة خاصة مع الحرب الأهلية القائمة ، وحتى السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية التي يفترض أنها تشكل جزءاً أساسياً ووحدة حال مع الوضع في غزة ومع ذلك لا نرى تظاهرة واحدة تؤيد الحق الفلسطيني وتشجب الطغيان الصهيوني.
- إنتشار الوهابية وبروزها كحركة سياسية دينية تكفر كل من لا يتبنى معتقداتها وكل من لا يقاوم الإحتلال ودعم معتقداتها بالبترودولار مما أدى إلى نشوء تيار مضاد عالمياً متزمت دينياً ومضاد للدين الإسلامي تحت شعار التمسك بالهوية، والمثال الصارخ على ذلك هو الهند التي إنتقلت تحت حكم اليمين المتطرف من دولة تقدمية داعمة لحركات التحرر وعلى رأسها فلسطين إلى دولة هندوسية تدور في فلك الغرب ومضادة لكل ما له علاقة بالإسلام والمسلمين ومنه حركات التحرر في كل من فلسطين ولبنان.
- بروز الإسلام السياسي ممثلاً بالإخوان المسلمين كقوة دافعة وحيدة ، وإن كان ذلك لحاجة في نفس يعقوب ، في حركة إنتهازية لملء الفراغ الحاصل من أفول اليسار ومحاولتها السيطرة على الشارع في مقدمة للسيطرة على الدول تحت ذريعة التمكين للإسلام وهو منها براء ، مع دعم وتشجيع من حكومة العالم الخفية تحت شعار دمقرطة الشرق الأوسط مستخدمة تركيا كمثال وبروز مصطلحات جديدة مثل “الإسلام الوسطي” بهدف السيطرة على الشعوب بإستخدام الدين وبهدف “التمكين” أدى إلى قتل روح التمرد على الظلم لدى الجماهير.
- فشل تطبيق النموذج الإسلاموي الإنتهازي في كل من مصر وتونس ، وتبعتهم الأردن مؤخراً ، وتجريم الإنتماء إلى حركة الإخوان المسلمين وأحزابها المختلفة وتحميل أي حراك شعبي على الإخوان ، مما أدى إلى إغتيال الحراك الجماهيري ونجت حركة حماس من هذا المصير بعد خروج تيار خالد مشعل من قيادة حماس بتأثير الأحداث في سوريا.
- تحول حركة فتح على الصعيد الفلسطيني من حركة تحرر إلى يمين مطلق تدور في فلك الدول العربية لتصبح جزءً من النظام العربي الرسمي بشكل بائس إلى أن وصل الأمر إلى إلى تجريم السلطة الفلسطينية لكل عمل مقاوم في الضفة الغربية وغزة وتجريد المقاومين من أسلحتهم وإعتقالهم وسجنهم .
- تنازل الأزهر الشريف عن دوره الريادي عبر التاريخ في قيادة الجماهير دينياً وسياسياً وتاريخياً في المنطقة ، وعن إرثه في المنطقة في مقارعة الإستعمار ثم تحوله إلى مجموعة أخرى من “وعاظ السلاطين” بعد تغلغل الفكر الوهابي التكفيري وتسليم القياد له عبر شعارات مثل عدم الخروج على ولي الأمر المطبع (إلا إذا كان ولي الأمر رافضاً للتطبيع فعلى المسلمين الخروج عليه وإسقاطه لكفره) وبحيث أصبح جمهور السنة غير قادر على التمييز بين الغث والسمين لوجود مثال واحد أمامه يقتدي به وهو الوهابية وأختها السلفية.
- نجاح قوى الإستكبار ومعها الثورات المضادة بتفتيت الجماهير أفقياً وعمودياً كان أسوأ مظاهرها خلق فتنة سنية شيعية وصلت حد الإقتتال في العراق وأدت إلى تقوقع جماهير السنة ليجلسوا في أحضان من يعتقدون أنه نصيرهم من الوهابيين وأذرعتهم المالية ، كما هي في لبنان، خوفاً من أن يوصفوا بأنهم عملاء لإيران.
بإجتماع هذه الأسباب ، وغيرها ، تم إعادة توجيه الجماهير وكي الوعي تدريجياً إلى أن وصل الأمر إلى إغتيال الوعي تماماً ومنح اليمين العربي والعالمي الفرصة التاريخية التي لا تقدر بثمن للسيطرة على ، وإدارة ، مكونات الصراع ، مع التشديد على أنه من غير الممكن إعتبار حركة الإخوان المسلمين والوهابية كحركات تحرر إطلاقاً لا سيما لدى الإشارة إلى الأمثلة التالية:
رفضت حركة الإخوان المسلمين على مستوى القيادة الإنخراط في مقاومة العدوان الثلاثي في مصر عام 1956 ، وإن كانت المشاركة بشكل فردي قد حصلت .
رفضت حركة الإخوان المسلمين على مستوى القيادة الإنخراط في مقاومة المحتل عندما أعلنت حركة فتح إنطلاقتها عام 1965 برغم أن معظم قيادة فتح المؤسسة كانت من الإخوان المسلمين الذين غلبوا فلسطينيتهم على إخوانيتهم ، مقارنة بحزب البعث العربي الإشتراكي الذي أصدر تعليماته لكوادره بالإنخراط في الكفاح المسلح.
لم تكتف حركة الإخوان المسلمين بمهادنة الأنظمة العربية بل عملت على دعمها ضد المعارضات المختلفة وإمتد ذلك لغاية بروز الربيع العربي الذي فتح عيون الأنظمة على الخطر القادم الناتج عن جماهيرية الإخوان المسلمين .
تعمل حركة الإخوان المسلمين بشكل حر ومريح داخل الأرض المحتلة وأدى نشاطها إلى شق الحركة الوطنية الفلسطينية هناك وإيصال مرشح الإخوان في الكنيست المدعو عباس منصور الذي لم يكتفي بعدم وقوفه أي موقف وطني وعدم سماع أي صوت من طرفه لمقارعة ممارسات الإحتلال ، مقارنة بأعضاء الكنيست العرب الآخرين مثل أحمد الطيبي ، أيمن عودة ، وحنين الزعبي، بل تبنى قانون الدولة اليهودية علناً ووصف الأسرى الفلسطينيين بالمخربين وترأس لجنة الداخلية في الكنيست وشارك حزبه في الإئتلاف الحكومي 2020/ 2021 ويصنف نفسه أنه مسلم ولكنه في الواقع ثروة سياسية وإعلامية للكيان الصهيوني.
وقفت حركة الإخوان المسلمين بقوة ضد الدول المناهضة للهيمنة والإستكبار مثل الجزائر وسوريا وحملوا السلاح ضد هذه الدول بعد أن إمتنعوا عن حمل السلاح ضد الصهيوني ، وهذا يفسر جزئياً كيف أن الجزائر دولة ثورية ومؤيدة بقوة للحق الفلسطيني ومع ذلك لا نرى تظاهرة واحدة مؤيدة لغزة لأنها ستحسب على الإسلام السياسي أو سيستغلها الإسلاميون ويوجهونها ضد الدولة ومؤسساتها.
أنتجت إنتخابات المجلس النيابي في الأردن عام 1989 ما مجموعه 36 عضواً من الإخوان المسلمين تحت شعار فضفاض حمل إسم “الإسلام هو الحل” وهو شعار غوغائي يجذب الجماهير بقوة ولا يمكن ترجمته إلى أرض الواقع لحل أزمة المواصلات أو مديونية الخزينة العامة أو غير ذلك من حاجات الشعب، وكان هذا المجلس بذاته الذي صدق على إتفاقية وادي عربة للسلام دون إعتراض من نواب الحركة في المجلس (حزب حبهة العمل الإسلامي).
حصل تطبيع المغرب مع الكيان الصهيوني بوجود حكومة ومجلس نواب بأغلبية إخوانية لم يتقدموا بأي إعتراض (مع ملاحظة أن المغرب حالياً متقدم في التعبير على بقية الدول العربية)
إذن ، أدى تولي الحركة الإسلامية صدارة المشهد إلى تسليم الجماهير للحركة الإسلامية بمركز الصدارة لوجود قاعدة يسهل البناء عليها وتوجيهها إلى حيث يريدون ، كون الثقافة الإسلامية موجودة في عمق كل فرد ، مما أدى إلى تفريغ الإسلام من روحه ومن مبدأ مقاومة الظلم والإستكبار لصالح المكاسب السياسية والتمكين خدمة لحكومة عالمية موجودة في المخيلة تضم كل المسلمين و”تعلي كلمة الحق بعد تأسيس الدولة الإسلامية” وتبع ذلك أصطدام الحركة الإسلامية مع الأنظمة ووسمها بوسم حركات إرهابية دفعت معها توصيف الأنظمة لأي حراك شعبي بأنه تابع للحركات الإسلامية التي تحرض على الفوضى في أحسن الأحوال ، إن لم توصف بالإرهابية ، ويغياب هذه القوة الدافعة للإسلام وتشويه توجهاته التي قتلت روح الإسلام أصبحت الجماهير التي تنتظر من يحركها بدون قيادات .
لننتهي إلى الملاحظة الأهم وهي أن الموت السريري الذي أشرنا إليه في بداية المقال منتشر في الدول الإسلامية (الباكستان مثال) أو ذات الأغلبية المسلمة ونخلص إلى نتيجة مؤداها أن تسييس الدين هو سبب رئيسي في هذا الخذلان الممتد على الصعيد الإقليمي ، إن لم يكن السبب الأساس ، وأن أعداء الوطنية وأعداء الوعي هم من يسمون أنفسهم برجال الدين بينما أنهم في الحقيقة رجال الكهنوت ولا يصلوا إلى مستوى كهنة حتى، أما كيفية المعالجة فتحتاج إلى دراسة في الإعلام والوعي وهو ما سنأتي عليه في مقال لاحق.
زياد زكريا – عضو الأمانة العامة لمنتدى سيف القدس