الثقب الأسود: حدود المعرفة وخرق النسيج الزمكاني بدون كلمة لأوسلو
كنت في الخامسة من عمري عندما كنت في نابلس، ولا أنسى الأماكن والشوارع والشخصيات، ففلسطين وكأنها أرض انبثقت من أعماق الأرض بأناسها وحجارتها، فكل شيء تراه هو في الحقيقة قصصٌ قديمة، فقد كنا نسكن في واحدٍ من بيوت العقدِ التي تعلوها قبة، ولهذه القبة خصائص أنها توازن التهوية والحرارة وتعوّض عن استخدام مواد الأساسات التي لم تكن متوافرة في ذلك العصر.
وكان في البيت ساحة يعلوها الفضاء، وفي نهايتها باب عملاق لغرفة سقفها كان يعانق السماء بالنسبة لطفل صغير مثلي. المطبخ، قديم جداً من الحجارة، وأن تعيش في فلسطين فيجب أن تعتاد على ظهور العناكب، والعقارب، والأفاعي بين كل حين، ولكنك يندر أن تسمع أن أحدهم قد لُدغ بقرصة عقرب، فالأرض قديمة عتيقة حتى تعايش فيها الإنسان والهوام.
أما الباب الذي يؤدي إلى المخرج، فهو يأخذك إلى ما يشبه الكوريدور، من الجهة اليسرى ثلاث درجات عتيقة ومساحة كان جدي قد وضع فيها أقفاصاً يمارس من خلالها تجارة بيع الدواجن، والأرانب، والديك الحبشي. نعم، الديك الحبشي من اللحوم اليومية في فلسطين، وليس في عيد الفصح بالتحديد.
أما قبالة باب المخرج فكان هناك سلم خشبي، إذا صعدتَ السلم تدخل شيئاً ربما نسميه الدكة، لا تستطيع الوقوف هناك لأن السقف منخفض، تستطيع التحرك في حالة القرفصاء فقط، لأنك إذا وقفت فإنك سُتسقط كرماً من العنب، إما الأخضر أو الأسود، ولا تكاد ترى ورق كرمة العنب، لأن العنب يغطي السقف تماماً. رائحة العنب المتساقط الجاف كرائحة نبيذ أحمر معتق، وأحياناً من باب الترف كنا نحب أن نأكله حصرماً ونستلذ بحموضته. لم يكن هذا العنب مجرد شجرة، فقد كنا أحياناً نقايض ونرسل كيساً من العنب إلى المخبز مقابل خبز الطابون الساخن.
أما إذا خرجتَ إلى اليمين باتجاه البوابة المؤدية إلى الشارع، فعلى اليمين عند الباب هناك قفص إضافي للدواجن. أتذكر أننا كنا نقوم بذبح كمية كبيرة ومن ثم أذهب مع جارنا ليرسلها إلى المستشفى ومن ثم نعود. قبل أن نفتح البوابة الحديدية المؤدية إلى الشارع، لنعد إلى صالة البيت حيث كنا نجلس ونستدفئ في الشتاء، لم نكن نستخدم صوبة الكاز أو الغاز، بل كنا نستخدم الكانون، ونشعل الحطب في الخارج، وعندما يتحول إلى جمر مشتعل ننقله الكانون إلى غرفة المعيشة ومن ثم نضع إبريق الشاي أو القهوة، وكان جدي قبالة هذا الكانون كالمحارب القادم من عمق التاريخ، يلبس جلابية عربية ناسياً من يكون.
لنخرج الآن من البوابة الكبيرة المؤدية إلى الشارع، لننزل الدرجات الثلاث. كان هناك كاسة شاي غامق كالليل كما يحب أن يشربه جدي، يضعها على المصطبة على يسار الباب، ومن جانب المصطبة في الجهة الأخرى بوابة حديدية كبيرة لها قفل، كان يفتحها جدي أو يغلقها، لأنها تؤدي إلى مدرج يشبه المدرجات الرومانية. نعم، هذا المدرج يحاذي البيت تماماً، وكان جدي هو حارس المدرج، وظيفة غير مرهقة لرجل كبير طاعن في السن.
كنت أذكر أنني كنت ألعب كثيراً في هذا المدرج، حتى يوماً وجدت بيضاً للأفاعي فهربت مسرعاً إلى البيت. وكنا أيضاً نصعد المدرج من اتجاهه الآخر، كان هناك أرض صغيرة تظلها شجرة برتقال ضخمة، كنا نلعب بالبرتقال ونرميه على بعضنا تشبهاً بأطفال الحجارة. وأتذكر أنني كنت من على تلك التلة أحمل “مقليعة” وهي تلك التي كنا نصنعها من قطعة الحديد ونلفها بالبلاستر لتصبح كالمقبض، ونصنع مقلاعاً من الموغيط وقطعة الجلد، فنضع فيها الحجر فيصل بعيداً. للأسف، صادرها مني مدير المدرسة، كل ظني أنه أراد أن يعطيها لابنه، لكنني اليوم أعرف أنها كانت قد تعرضني للخطر إذا ما رآها جندي صهيوني بيدي.
لنعد إلى بوابة البيت، كان أبو يوسف يعيش قبالتنا، ولكنه كان يضع كرسيه جنب المصطبة أمام بيتنا، وكان أبو يوسف يلبس اللباس الفلسطيني التراثي الذي يشبه الجلابية ويتوسطه حزام، وعلى رأسه حطة بيضاء وعقال. أتذكر صوت أبو يوسف، هل كانت لهجته نابلسية أم خليلية لا أذكر. لكن صداها الفلسطيني نادر جداً.
أما بهجت، فهو رجل ضخم ممتلئ، أظن أنه كان يعمل في مهنة البناء، كان بهجت يمر كثيراً ذهاباً وإياباً من أمام منزلنا، وكان يلبس بنطالاً ضخماً مثل بناطيل علاء الدين، اسم البنطال بالفلاحية (خِري)، وأظن أن السبب واضح وراء هذه التسمية. هل كان بهجت ضخماً أم كنت أنا صغيراً جداً؟
ما لم أخبركم به أن البلد القديمة في نابلس، تلك التي تعرفونها وتشاهدون أسواقها على التلفاز والأخبار كثيراً، تبعد عدة خطوات من منزلنا. وقبالة مدخل السوق في شارعنا، ومن الجهة التي تلي بوابة المدرج، كانت هناك البقالة. أظن أن اسمها كان بقالة عبد اللطيف، كنت أشتري منها البونبون، الشوكولاطة الأرجنتينية التي اشتهرت مؤخراً في الأردن وبلاد أخرى، وكنت أحياناً أشتري الحلاوة الطحينية، أو حبات الحوالة!!! لا أدري لماذا كنا نسميها حوالة، هي ذاتها الحلاوة، أو الدروبس، وكانت بنكهات فواكه متعددة، وفي داخلها عسل.
وكنا أيضاً دائماً ما نشتري عصير الزهراء، يأتي في (جلن) ويُضاف إليه الماء والثلج، ويأتي بنكهات مثل الأناناس.
كل هذا العالم كان على يمين بيتنا، ولكن المدرسة كان اتجاهها يساراً. لم أكن أحب المدرسة، فقد كنت مثلما اليوم، روحي حرة ولا أحب أن أكون تحت المراقبة والأنظار والقوانين، ولكنني كنت أحب سندويشة الحلاوة الطحينية التي تضعها أمي في شنطتي بين الكتب، وكنت أحب أن أمشي ربع المسافة إلى المدرسة فقط، حيث أمرّ بجانب محل الجاتوه الذي تفوح رائحته من خارج المحل، كنت أدخل وأشتري حبة الجاتوه صباحاً وآكلها، ومن ثم تنتهي المسافة التي أحبها وأعود إلى البيت مدعياً المرض محاولاً عدم الذهاب إلى المدرسة. كنت أحياناً أنجح، وأحياناً أفشل في المحاولة.
كانت مدرستي غريبة، بناية قديمة من عدة طوابق، ولم يكن لها ساحة، وإنما كنا نذهب إلى السطح وقت (الفورصة)، هي الفرصة، ولكننا كنا نلفظها بهذا اللفظ، فورصة. ومن الغريب أيضاً أننا كنا ننادي المعلمة بكلمة “خالتو” أو “تريدي”.
ليس هناك الكثير من الذكريات في المدرسة. ربما لأنني لم أحبها، بل كنت أحب الروايات والكتب التي أختارها أكثر، مثل قصة الذئب الحاج التي كنت أحبها، والذي أعيش اليوم لمطاردته واصطياده وحبسه.
أتذكر مسجد عجعج، وأتذكر بيارات البرتقال التي كان البرتقال يملأ أرضها وشجرها، والأبقار ترعى في ظلالها. وأتذكر يوماً حين أخذني جدي إلى سرطة إلى المضافة، غرفة طويلة لا أكاد أرى نهايتها، كلها رجال، في نظري كنت أراهم رجالاً عابسين، وفي المنتصف طاولات كثيرة تملؤها علب الدخان المفتوحة، فقد كان هذا هو بوفيه المضافة. لا أذكر عن ماذا كانوا يتحدثون، ولكني أذكر أن جدي كان مهيباً في ذلك الموقف. وعلى فكرة، جدي يشبه عمر المختار كثيراً.
ومن ثم ذهبنا إلى العزبة عند بيت عمي (أخو جدي)، هذا الرجل العبقري الذي لم يذهب يوماً إلى المدرسة، ولكنه يزرع المحاصيل الشتوية في الصيف، وقام بتشغيل السيارة على الغاز النظيف، كما اخترع فرناً متنقلاً يصنعه من البراميل. اشتهر هذا المنتج وصار يبيعه على مستوى فلسطين، كما أنه يزرع دخانه الهيشي ويفرمه ويلفه بورق الدخان نفسه، فهكذا يكون الدخان صحياً قدر المستطاع! بيته في العزبة في وسط جبل تملؤه النباتات والأشواك. دائماً ما أتساءل كيف تتكون الطرق الضيقة على الجبال بين النباتات الكثيفة، ممرات كأنها من صنع البشر، لكنها ليست كذلك! في العزبة كنت أقود عجلاً حديدياً كبيراً وأركض فيه بين هذه الممرات. انتهت رحلتنا ثم عدنا إلى نابلس، فلم أكن معتاداً على ما يستخدمونه في الطبيعة كحمّام (الخلاء).
فجأة، أُعلن الإضراب. دخل غولدشتاين الحرم الإبراهيمي في الخليل، وقام بقتل العديد من المصلين. لم تكن هذه حالة الإضراب الأولى، كنا كثيراً ما نُضرب لسبب وغير سبب. كان هذا أسوأ إضراب، رأيت شاباً من الذين نعرفهم في الحارة ملقىً على الأرض بدمائه بسبب المواجهات هنا وهناك. مرت الأيام وخفت المواجهات ولكن الإضراب كان مستمراً. مرضت وأصابني صداع غريب! أخذتني جدتي تبحث عن طبيب في شوارع نابلس الخالية. أكثر عيادات الأطباء في بيوتهم، لكن لم يستقبلنا أحد. لا أذكر كيف شفيت ولا أذكر الحالة بالضبط. أيامٌ وقررت والدتي العودة إلى الأردن.
غادرنا وأنا في الخامسة والنصف من عمري، كنت عديم الأهلية، لا أملك أهلية التعاقد، وأي تصرف قانوني باسمي بيعاً أم شراءً باطلٌ بطلاناً مطلقاً ولا يُعتد به.
” من خارج الثقب الأسود، يبدو أن الجسم لا يصل أبداً إلى الداخل، بل “يتجمد” عند الحافة، ويختفي الضوء المنبعث منه”
آدم السرطاوي – كندا