المشهد الأول: مادلينا عروس بحر غزة، منحت اسمها لسفينة الحرية، فأبحرت حرية مادلينا سفينة شراعية من ميناء كتانيا في جزيرة صقلية، نحو بحر غزة، تلم الضفة بالضفة وتعبر 1200 مايل، لتقدم روحها مقابل كيس طحين لطفل فلسطيني. بين الماء والماء رحلة محبة وإباء وشهامة وإصرار على كسر الحصار، على متنها “ريما وقريتا ودياقو وياسمين وباتيست وباسكال وعمر ويانيس وسوايب وسيرجيو وماركو وريفا”، تجمع لثلاث قارات وسط سفينة صغيرة اسمها مادلينا المنتمية لأسطول الضمير العالمي،
بعد رحلة سبعة أيام، وفي صبيحة التاسعة من يونيو، اختطفت أيادي الغدر والعدوان مادلينا ورسل الحرية ووضعته قيد الاعتقال ليلتحقوا بألاف الأسرى الفلسطينيين فتوحدهم محنتهم ويشملهم التاريخ بعلوه ونقائه ومجده.
المشهد الثاني: من هنا، من قرطاجة، فجرا انطلق المسير نحو غزة الجريحة،
كمستعمرة نمل، نشط شباب لمدة شهرين أو أكثر في عمل جماعي تطوعي، تنظما وتنظيما، إدارة وتنسيقا، اتصالا وتواصل، تشبيكا وتدبرا للوسائل بهدف واحد: كسر الحصار..
فجرا في التاسع من جوان، انطلقت القافلة بالزغاريد والأهازيج وصيحات الانتصار وشعارات التضامن ومشاعر المحبة الجياشة، غصت الحناجر بالهتاف لغزة العزة وفاضت الدموع من عيون عجز أصحابها عن الانضمام للقافلة، عشرات السيارات والموتوسيكل تصاحب تشجيعا، القافلة في اتجاه محطاتها المتتالية ونحو حدود الشقيقة ليبيا، سوسة، صفاقس، قابس، مدنين، بن قردان ثم راس جدير، وفي كل مدينة، مهرجان وأعراس، وفي كل مدينة حفاوة فوق الوصف بشبيبة العبور، وكل مدينة تزينت بعلم فلسطين وكوفية الفدائي، وأعلنت النفير من أجل تيسير المسير نحو غزة، المشاهد والصور من روعتها دوختنا في الاختيار، أي مشهد سنحتفظ به للذاكرة وأي صورة سنقدمها للعالم لنقول هؤلاء نحن وها نحن هنا، وتلك غزة العزة التي لن تكون وحيدة،
على الطريق يحيي الأمن التونسي قافلة الصمود كما يحيي سرب طيران حربي لبلاده، وتلتحق امرأة بإحدى سيارات القافلة لتسلمها مبلغا من المال لغزة على الطريق، ويهدي شيخا مظلته لغزة، ويبكي طفل ويلقي قصيدة عن غزة يخشع لها السامع، وتقف فرق الكشافة التونسية لتحية قافلة العبور والألترا Ultra تنشد: جايينكم من تونس الخضرا، جايينكم وباش نعلي الصوت، جايينكم يا أهلنا في غزة، جايين ومش خايفين من الموت،،


المشهد الثالث: لا شرق في ليبيا ولا غرب، ولا جنوب ولا شمال، في لمح البصر تعانقت كل ليبيا باستثناء سرت في مرحلة لاحقة، وتحولت الى لحظة غزاوية عجيبة، وفي كل اتجاه ساحة مفتوحة للتطوع والقتال ضد العدو لا ضد الشقيق. سكت الرصاص، وانكفئ القناص، واختفت المدافع، وفتحت الشوارع والساحات والممرات، الماء يوزع في الشوارع والحلويات، ومآدب العشاء والغداء تنصب كما كان الضيف مُنَزل من السماء، ذُبحت الابل ابتهاجا بقافلة الحرائر والرجال، وتوحد الليبيين على العطاء دون حساب، البنزين بالمجان، والتنقل بالحماية والأمان، والخيام تنصب كما تفتح بيوت الكرام، من كل صورة وحركة تفيض المحبة ويخترق جسمك شعورا فياضا بالفخر وصدق التآخي وعمق الروابط وصلابة القرار.
المشهد الرابع: نحلق في سماء باريس لنرى في ساحة الكنكورد وساحة الجمهورية، حشد بعشرات الألاف من المعتصمين وأنصار فلسطين والمتضامنين مع غزة ومادلينا، يشق صوت المعتصمين ظلام ليل باريس الطويل لتتحول المدينة الى ميدان ثورة شعبية ضد الصمت والتواطئ الرسمي الغربي المجرم، : كلنا أطفال غزة / Nous sommes tous les enfants de gaza وأعلام فلسطين ترفرف في السماء عاليا.


تتقدم ريما الحسن ورفاقها عائدين من معتقل الكيان الصهيوني، لتلقي خطبة تشعل بها الساحة وتؤكد في رسالة واضحة للكيان أن السفن ستشد الرحال الى غزة مرة ومرات، وأن البحر مفتوح على كل الاحتمالات ولن يتوقف عن استقبال سفن الحرية والكرامة. في الأثناء تقرر جامعة عمال الموانئ في فرنسا الامتناع عن تحميل الآليات العسكرية والتقنية المتوجهة للكيان.
في فيانا، تحولت ساحة تيودور هرتزل الى غزة بلاتزا Gaza Plaza، وبينما تعج الشوارع بالمظاهرات من أجل غزة وسفينة الحرية، تحتضن المدينة أول مؤتمر عالمي لليهود المناهضين للصهيونية، ويستقبل شخصيات اعتبارية عالمية من أجل تصحيح التاريخ وإعلان الحقيقة في وجه منظومة الظلم والاستكبار الامبريالي الصهيوني. لا تختلف عواصم أوروبا عن هذا الجو المشحون بالغضب ضد المواقف الرسمية لحكام أوروبا والصمت على جرائم الإبادة في غزة.
المشهد الخامس: في العريش سيارات رباعية الدفع تحمل علم فلسطين ومصر، تتجمع وسط الشوارع والساحات، وتحتشد لاستقبال المسيرة العالمية لكسر الحصار، مسيرة تمنع من المرور من طرف السلطات المصرية في القاهرة، وشوارع العريش تصرخ: افتح الحدود، افتح الحدود، افتح الحدود..

نصرة فلسطين لا تحمل جنسية ولا هوية ولا لون، ومقاومة العدوان والقهر والظلم ليس له دين، فاليُعَدِّلْ العالم ساعاته على ميقات غزة، فدمائها الزكية ترسم الخرائط الجديدة وصرخات نسائها واطفالها ستنتصر حتما على زمجرة مدافع العدوان والطغيان لكيان لقيط أضحى عبئ على الإنسانية جمعاء وبصمة عار ووحشية في وجه هذا العصر.
هند يحي/ تونس