في غزة، لا يُستخدم الجوع كأثر جانبي لحصار، بل يُصاغ كسلاح مركزي في معركة إعادة تشكيل النفس البشرية. الجوع هناك لا يعني فقط غياب الطعام، بل حضور منظومة كاملة من التفكيك، تشتغل على العقل، على الذاكرة، على كرامة الإنسان.
في الأزمنة الاستعمارية، كان التجويع يُستخدم لإجبار المجتمعات على الانكسار، واليوم، تُعاد هذه التقنية بذكاء أكبر وبتواطؤ أشد. في شوارع غزة، يُولد الأطفال في عالم يتعامل مع الغذاء كامتياز، ومع الخبز كحلم، ومع الماء كجائزة. هذا الواقع يصنع أجيالًا لا تواجه فقط عدوًا خارجيًا، بل تدخل معركة داخلية مستمرة ضد تحطم الأمل، وضياع المعنى، وتآكل الصبر.
الجوع يُحدث تشققات في البنية النفسية للفرد. لا يترك مجالًا للتأمل، للتخطيط، للخيال، بل يدفع نحو ردود فعل غرائزية. حين تُجبر الأم على الاختيار بين وجبة واحدة ورضاعة ابنها، فإنها لا تعيش فقط لحظة قاسية، بل تدخل متاهة نفسية عميقة: هل تحافظ على دورها كراعية أم تتنازل عن بعضه لتنجو؟
هذا النوع من التجويع لا يهدف إلى القتل المباشر، بل يزرع داخلك قتيلًا يتنفس. يخلق إنسانًا يظل حيًا جسديًا، لكن تتآكل فيه الروح، وتنكسر داخله المعاني الكبرى للحياة. حين تُصبح لقمة الخبز فعل مقاومة، فإنك تُدخل المجتمع بأسره في دائرة تشبه الحرب النفسية الممتدة بلا توقف.
غزة تُعيد تعريف الجوع. لا يعود حدثًا بيولوجيًا، بل يتحول إلى ظاهرة نفسية اجتماعية سياسية. الجوع الغزّي ليس ضعفًا بل إدانة للعالم. حين ترى الصور، وتتابع التفاصيل، وتدرك أن هناك من خطط ليجعل الجوع وسيلة إخضاع، تفهم أن الصراع تجاوز كونه مواجهة عسكرية، بل دخل مرحلة الحروب النفسية الناعمة التي تقتل دون رصاصة.
من هنا تبدأ الحرب الأهلية العالمية الأولى. ليست حرب جيوش ضد جيوش، بل مشاعر ضد أنظمة، ذاكرات جماعية ضد مشاريع محو. الجوع في غزة يتحول إلى محفز لانهيارات نفسية في أماكن أخرى، إلى صرخة تتردد في شوارع باريس ونيويورك، في مخيمات اللاجئين وفي عواصم القرار. من غزة تخرج عدوى شعورية تُفكك استقرار الذات الغربية، تُوقظ ذنوبًا مدفونة، وتُشعل غليانًا داخليًا قد ينفجر في أي لحظة.
الجوع في غزة ليس صمتًا، بل زلزالًا مكتومًا. أداة تُستخدم لزعزعة التماسك، ولتفكيك النفس، لكنها – paradoxically – تُنتج مقاومة من نوع آخر، مقاومة تنبت من العدم، وتتحول إلى نمط حياة، إلى هوية، إلى صرخة كونية.
غزة، بهذا الجوع المصنوع، تُعلن بداية عصر جديد: عصر تنهار فيه الحدود بين ما هو داخلي وخارجي، بين الألم الشخصي والسياسي، بين لقمة الخبز ومشروع الهيمنة. ومن رحم هذا الجوع، تولد حتمية الانفجار العالمي القادم.

بقلم خالد دراوشه