خاص طوفان-بقلم الناشط الفلسطيني خالد دراوشة_ ثمة لحظات في تاريخ الإدراك لا تنتمي إلى السياق، بل تُعيد صياغته. غزة، ليست سطرًا في نشرة، ولا رقعة على خريطة. إنها قلب ينبض خارج التوقيت الرسمي للكوكب، وعين ترى حيث لا تُبصر العدسات. هناك، لا تدور الأمور كما يشتهي الذين يتقنون صناعة الوقائع الملفقة. هناك، يتمدد الزمن ويتموّج، لا وفق تقويم سياسي، بل حسب مقياس الوجدان المتحرر من المعايير الجاهزة.
عندما تُطالع الصور القادمة من غزة، لا تقرأ فقط مشهدًا، بل تنغمس في تردد طويل، كأنه صدى انفجار في بُعد لا تُدركه الحواس الخاملة. ثمة طفل يحمل كفن أخيه كأنما يمسك بكتاب من نور، وثمة أم تجمع ما تبقى من جسد ابنها كما تجمع القصائد الأولى. في ذلك الفضاء، لا يعود الألم مجرد إحساس، بل يصبح لغة خامسة، لا تُكتب، ولا تُترجم، بل تُفهم كما تُفهم الطاقة في لحظة تحوّل.
كل بيت تهدم لا يُغلق صفحة، بل يفتح أخرى. كل جدار يسقط يُظهر ما تحته من معاني لم يكن الزمن قد استوعبها بعد. هناك، لا يتوقف العالم كما يتوهم المراقبون من نوافذهم المكيّفة، بل يبدأ حيث يُظن أنه انتهى. في لحظة الخراب، تُخلق ذروة المعنى، وتنقلب قوانين التفاعل الإنساني.
السكون الذي يُخيّم على العواصم لا يدل على جهل، بل على خيار. وفي هذا الخيار تتجلى فضيحة الإدراك العالمي: أن يُرى كل شيء، ويُسمع كل صدى، ومع ذلك يُختار الانحناء تحت وطأة المصالح. في زمن تتباهى فيه الأنظمة بقدرتها على التحليل الفوري والتنبؤ الدقيق، تعجز عن التعرف على بكاء طفل داخل نفق، أو عن استيعاب حرارة جثة خرجت للتو من تحت الركام.
في غزة، لا تمر الأجساد بصمت. كل جسد يترك توقيعه في الوعي الجمعي، ويمارس فعله في زلزلة السرديات المصطنعة. هناك، لا يُدفن الشهيد، بل يُزرع في الذاكرة، ويتحوّل إلى معادلة تصعب على المعسكرات التي تنتهك الحروف قبل أن تمس الأجساد. المعنى هنا لا يُستخلص بالشرح، بل بالمعايشة الداخلية التي تشبه لحظة ارتطام شعور بالحقيقة.
الذين ما زالوا يبررون، لا يدركون أن الزمن لم يعد يعمل لصالحهم. لأن الوعي الذي يُولد من رحم هذا النزف، لا يُقايَض، ولا يُساوَم. هو وعي يشبه القوانين التي تُكتشف ولا تُخترع. ما يحدث هناك ليس “رد فعل”، وليس “مقاومة” كما يُحب السياسيون القول حين يريدون تلطيف الحقيقة. ما يحدث هو انبعاث. طاقة تُعيد ترتيب البنية الرمزية للكون، وتخلق توازنًا جديدًا يُخيف من لا يجيدون التعامل مع الكرامة حين تتحول إلى موجة كونية.
في الظل، تعمل الآلة الإعلامية على إعادة تشكيل الخيال العام، ولكنها تصطدم بما لا يمكن طمسه. لأن الصورة الصادقة لا تحتاج إلى تعليق. ما يُرسل من هناك لا يخضع للتحكم. طفل يضحك رغم الجوع، أُم تغني للركام، وجيل يُعيد تشكيل اللغة ليتحدث باسم من سبقوه. تلك الحكايات الصغيرة، التي يظنها البعض غير مؤثرة، هي بالضبط ما يُغيّر اتجاه التيار.
في غزة، تُمارس الحياة وكأنها فعل مقاوَمة كونية. بين كل صافرة إنذار، تولد فكرة. بين كل انهيار، تنهض ذاكرة. ومن كل شظية، يُبنى وعي يتجاوز الأنساق القديمة. من هناك، تنطلق موجة تختلف عن أي طاقة مُكتشفة. لا تعمل وفق خط مستقيم، ولا تتوقف عند حسابات الربح والخسارة. إنها حركة تتحدى كل محاولة للتقنين، وتُربك النماذج الجاهزة لتحليل التاريخ.
فلسطين، كما تُنطق من شِفاه غزة، ليست وطنًا فقط، بل تجربة كونية معقدة من التفاعل، من التحوّل، من التكرار الخلاق. هناك، لا يُطلب من العالم أن “يتضامن”، لأن هذا الفعل يأتي من موقع فوقي. ما يُنتظر من العالم هو أن يُعيد فهم نفسه من خلال هذه التجربة. لأن المقياس هنا ليس أخلاقيًا وحسب، بل وجوديًا. من يقف ضد غزة، يقف ضد احتمال نهوض الإنسان من رماده.
من يظن أن الحصار يُنتج صمتًا، لم يسمع جيدًا كيف تتحول الأنقاض إلى صوت، وكيف تتحول الدماء إلى لغة لا تحتاج إلى ترجمان. في غزة، لا شيء يضيع. حتى الضوء الذي يُغتال يُختزن. حتى الغضب الصامت يُعاد توجيهه إلى الداخل ليُصبح نبضًا آخر في مشروع لا يعترف بالنهاية.
من يراقب ما يجري دون أن يُدرك عمقه، يُشبه من ينظر إلى معادلة كمومية دون أن يفهم ترابطاتها اللاخطية. في غزة، كل تفصيل متصل بالآخر، كل قطرة دم لها أثر موجي، وكل صوت، مهما كان خافتًا، يتحول إلى طاقة قابلة للانتشار.
من هنا، لا يُمكن لأحد أن يتجاهل الحقيقة دون أن يتعرض لتشويش في رؤيته العامة للعالم. لأن من يمرّ بغزة، حتى بالخيال، لا يخرج كما دخل. هناك، تتبدل الأبعاد، وتتحرر المفاهيم من سجونها. هناك، تتعلم الأعين كيف تبصر، وتتعلّم الأيدي كيف تكتب من جديد، في كتاب ليس عنوانه النصر، بل الاستمرار في الوجود رغم كل معادلات الإبادة.

الخاتمة:
في قلب الظلام، تشرق الشمس في عيوننا،
منازلنا تحترق، ولكن من رمادها نولد،
أرضنا، رغم الجراح، لا تغادرنا،
في كل حجر، حكاية عن صمود لا يُنسى.
نحن الذين لا تهزنا الرياح،
أقدامنا غارقة في الأرض التي لا تذبل،
فلتغرقوا في صمتكم،
نحن هنا، نردد صدى الحياة في كل خطوة.
غزة، أيقونة لكرامة لا تُمس،
الدماء التي سالت، تكتب فصولًا جديدة،
وكل نبضة في قلوبنا،
تُعلن أن الحرية أبعد من الحصار،
وأعمق من كل حدودهم الزائفة.

بقلم خالد دراوشه