– لعل المؤرّخين لم يتوقّفوا كفاية أمام مغزى قرارات الجنرال هنري غورو بعد احتلال سورية من قبل القوات الفرنسية، بتقسيم سورية إلى عدة دويلات على أساس طائفي وعرقي، وعدم اعتبار السيطرة على الجغرافيا السورية كافيا للمشروع الغربي. وقد يستغرب القارئ أن نقول إن مشاريع عديدة لتقسيم سورية كانت دائماً ترفق بمعادلة أن السيطرة على المنطقة لا تستقيم مع بقاء سورية موحّدة، وهو كلام لم يُقَل مثلاً عن مصر أو السعودية، وهما بلدان عربيان مهمان ومساحة كل منهما جغرافياً أكبر من مساحة سورية، ولعله من اللافت أيضاً أن لا تكون السيطرة الغربية على أي من البلدان العربية قد ترافقت مع تقسيمه إلى عدة كيانات كما فعل غورو في سورية.
– قرارات غورو صدرت على دفعات بين آب 1920 وآذار 1921 والتي أنشأت إضافة الى لبنان الكبير بعد ضمّ الأقضية الأربعة إليه بعد قرار بنزعها من سورية، أربع دول تباعاً هي دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين ودولة الدروز إضافة إلى إدارتين ممتازتين في كل من الجزائريّة شرقاً ولواء اسكندرون غرباً، قبل ضمّه إلى تركيا لاحقاً، لكن اللافت أنها أكملت تقسيماً سابقاً لها بأربع سنوات هو تقسيم سايكس بيكو لبلاد الشام إلى أربع دول هي سورية والعراق ولبنان وفلسطين، بما يعني أن تقسيمات سايكس بيكو التي لا مثيل لها في مناطق أخرى سيطر عليها الاستعمار الفرنسي والبريطاني مثل بلاد المغرب ووادي النيل، حيث كانت التقسيمات تعبيراً عن خصوصيّات محلية فرضت نفسها، وفرضت حضورها على المستعمر نفسه، حيث خضعت بلاد شمال أفريقيا للسيطرة الأوروبية الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية، بحملات منفصلة استهدفت بلدانها.
– وجود نصوص لقرارات التقسيم من قبل قادة المستعمر تعني وجود حسابات وخطة. وهذا معنى سايكس بيكو، ولاحقا قرارات غورو، ونظراً لأسبقية سايكس بيكو على وعد بلفور بإنشاء كيان استيطاني لليهود في فلسطين، يصبح منطقياً الاستنتاج أن تقسيمات سايكس بيكو مهّدت باقتطاع فلسطين من جغرافيا بلاد الشام لتسهيل قيام الكيان الاستيطاني في فلسطين، لكن ذلك لم يكن كافياً لفرض السيطرة فجاءت قرارات غورو لتكمل المهمة، والمهمة هي منع قيام أي حركة مقاومة بوجه احتلال فلسطين ونزعها من بلاد الشام، لأن سورية الموحّدة قوية، وسورية الموحّدة والقوية مستقلة ومقاومة وعامل وحدة في إقليم بلاد الشام، وبالتالي لا فرصة لقيام سورية ضعيفة وضرب روح الوحدة في الإقليم وانتزاع روح المقاومة منه، إلا بتقسيم سورية.
– أدرك الوطنيون السوريون في عشرينيات القرن الماضي هذا الترابط بين وحدة سورية واستقلالها وقوتها ومقاومتها ومسؤوليتها الوحدويّة في الإقليم، فكانت الثورة السورية الكبرى قبل مئة عام سنة 1925، ولم تفلح كل إغراءات الاستعمار ومحاولات الترهيب والقتل التي مارسها في دفع السوريين للتسليم بالتقسيم، وفشلت محاولة إقامة دويلات غورو فشلاً ذريعاً، وقد تعاهد قادة الثورة على ثلاثية الاستقلال والوحدة والمقاومة، وأبلغ سلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي وعبد الرحمن الشهبندر، المفوّض السامي الفرنسي رسالة واحدة، الاستقلال والوحدة شرطان لوقف المقاومة، وبالرغم من فاتورة بلغت خمسة آلاف شهيد لم تتوقف المقاومة حتى تحقيق أهدافها، وقد تعرّضت دمشق مراراً للقصف بالطائرات الفرنسية لإخضاعها ولم تخضع.
– وزير مالية كيان الاحتلال بتسلئيل سموتريتش صرّح أمس، بأن الحرب التي بدأت بعد طوفان الأقصى لن تقف دون تفتيت سورية، سورية لم تكن قد دخلت الحرب ولم تكن “إسرائيل” قد أدخلتها طرفاً فيها، لكن سموتريتش اليوم يضمّها إلى أهداف الحرب، ويختصر الأهداف بإضعاف قدرة حزب الله وتفتيت سورية وإنهاء القدرة النووية الإيرانية والقضاء على حماس، ويأتي كلامه بالتزامن مع أحداث دمويّة طائفيّة في منطقة جرمانا إحدى ضواحي العاصمة السورية دمشق، وبعد أحداث الساحل السورية التي انتهت بمجازر وتصفيات طائفية لآلاف السوريين من الطائفة العلوية، لكن الأشدّ أهمية هو أن كلام سموترتيتش يتضمن تعديلاً بنيوياً للكيان السوري من الوحدة الى التفتيت، بينما يكتفي بطلبات سياسية في باقي العناوين الجغرافية، مستعيداً مقولة أنه لا يمكن السيطرة على المنطقة بوجود سورية موحّدة.
– ما يمنح كلام سموتريتش أهمية استثنائية أنه يأتي بعد حصول كيان الاحتلال على موافقة الحكومة السورية على طلباتها الأمنيّة عبر رسالة رسمية سلّمتها الحكومة السورية إلى الحكومة الأميركية جواباً على الشروط الأميركية لتخفيف العقوبات، كما تأتي بعدما حصل كيان الاحتلال على التزام تركي في مفاوضات أذربيجان بالخطوط الحمر الإسرائيلية وتراجع انقرة عن التفكير بمعاهدة دفاع مع سورية وبناء جيش سوري قويّ يتم تزويده بسلاح جو وعن التعهّد بإنشاء شبكة دفاع جوي وتقديم سلاح دبابات حديثة، والتخلي عن بناء قواعد عسكرية تركية في سورية والاكتفاء بتقديم مساعدة تدريبية وأمنية.
ناصر قنديل