عندما ترقص سورية على حبال الحرب الأهلية وخطر التفتيت والتمدد الإسرائيلي نيراناً وتوغّلاً فإن المنطقة كلها تكون في خطر، ولا يملك مَن يحالف ومَن يخالف الحكم الجديد في سورية فرصة ربط الموقف من هذه المخاطر بالموقف من هذا الحكم الجديد تأييداً أو معارضة. وعندما يكون الموقف العربي العاجز عن فعل شيء لأجل غزة التي تتعرض لحرب إبادة على مدى سنة ونصف، ويكون الموقف الدولي موزعاً بين التفرج والإدانة والتقديم للتغطية والحماية لحرب الإبادة، فإن أي رهان على فعل العاملين العربي والدولي في حالة سورية باتجاه مغاير ليس أكثر من سذاجة.
تستثمر هذه المخاطر على ثلاثة استعصاءات سورية، الاستعصاء الأول نابع من تناقض الجمع من جهة بين طبيعة حزبية فئوية ضيقة لتكوين السلطة الجديدة والإصرار على جعل الفصائل التي اجتمعت تحت قيادة هيئة تحرير الشام لدخول دمشق محور السلطة الجديدة، وهي فصائل تنتمي الى لون واحد عقائدياً يمثل جزءاً محدوداً من المكوّن الطائفي الأكبر في سورية وهو الطائفة السنية التي لا تأتلف غالبيتها مع نسق التفكير الذي تحمله هذه الفصائل تجاه فهم الإسلام والعنف والتكفير. وهذه الفصائل تضع في عقيدتها كل المكونات الطائفية والعقائدية الأخرى تحت عنوان التكفير، ومن جهة مقابلة تحريم حمل السلاح على سائر المكوّنات الطائفية والعرقية السورية، والتمسك بنظريّة حكم الأغلبية والمقصود الطائفة الأكبر وسقف حماية حق الأقليات في العيش، وقد عبرت أحداث الساحل السوري وما رافقها من مجازر عن السياق التطبيقيّ لهذا التناقض عندما يتحرك في الواقع، وها هي أحداث السويداء وجرمانا وصحنايا تقدّم نموذجاً مماثلاً.
أدى إصرار الحزب الحاكم الجديد الذي يمثله هذا التكوين العقائدي الفصائلي المسلح على احتكار السلطة، إلى تشكيل حكومة اللون الواحد يزيّنها بعض الديكورات التي لا تقنع أحداً بأنها علامة على نية التشارك في الحكم، والى تشكيل الجيش والأجهزة الأمنية من الفصائل وحل الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية بدلاّ من إعادة تكوينها على أسس تضمن تكوينها العابر للطوائف وتعتمد معايير مهنية لا طائفية ولا عقائدية في تركيبتها، بحيث تسند عملية إعادة البناء لمئات وآلاف الضباط الذين يمثلون حالة مهنية لا حزبية، لا تمثل امتداداً للنظام السابق ولا تمثل صدى للفصائل الحاكمة اليوم. وكانت هذه رسالة كافية لكل المكونات الأخرى تقول إن لا مكان لهم في سورية الجديدة، وإن إلقاء السلاح مخاطرة بالتعرض للمجازر والتطهير العرقيّ والإبادة.
بفعل هذا الإصرار نفسه أهدرت السلطة الجديدة فرصة توظيف القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدولي ليكون إطار بناء سلطة تشاركيّة تحظى بالاعتراف الدولي، وتحت ذريعة أن القرار صدر تحت عنوان حل الأزمة مع النظام السابق، فتمّت التضحية بفرصة تاريخية مثلها القرار لتفادي استنفار العصبيات الطائفية بفعل هيمنة عصبية طائفية على الحكم، فكان ممكناً تشكيل هيئة حكم انتقاليّ نصّ عليها القرار تمثل كل السوريين، كما يقول القرار وبقاء آخر حكومات النظام السابق لتولّي تصريف الأعمال وجهاز الشرطة وأجهزة البلديّات إجراء عمليات ترميم وإصلاح في هياكلها بتبديل بعض الأسماء بأسماء أخرى من داخل المؤسسات، وتولي هيئة الحكم الانتقاليّ صلاحيّات رئيس الجمهورية في الدستور السابق، وبدلاً من الخوف من الانتخابات ورميها إلى ما بعد خمس سنوات، إنهاء الدستور الجديد والاستفتاء عليه خلال سنة، وإجراء الانتخابات خلال سنة ونصف كما ينصّ القرار الأممي.
على خلفيّة هذا الاستعصاء ولد استعصاء ثانٍ، مصدره التفكير بعقلية حماية الاستئثار بالسلطة، فكانت الأولوية الثانية للحكم الجديد هي الوصول إلى رفع العقوبات الأميركيّة وإلغاء تصنيفات الإرهاب للفصائل، على قاعدة أن تحسين الحال المعيشيّ سوف يغطّي على الطابع الأحادي الحاد للسلطة بعيون السوريين الذين أتعبتهم حالة الحصار والفقر، وهكذا جرى البحث عن كيفية استرضاء أميركا بأي ثمن، والثمن هو اعتبار إيران وقوى المقاومة في المنطقة أعداء سورية الجديدة، كما صرّح أركان الحكم الجديد، والاستعداد لطي صفحة الصراع السوري الإسرائيلي دون شروط، والتعهد بعدم التسامح مع أي محاولة لإلحاق الأذى بـ”إسرائيل” من الأراضي السورية، لكن الحصيلة قالت إن لا سقف للطلبات والشروط الأميركية الإسرائيلية، وإن طريقة تركيب الدولة السورية والعلاقة بين مكوّناتها تقع ضمن سلم الأولويات في هذه الشروط، وإن كانت تعتقد السلطة الجديدة أن ما قدّمته بإخراج ايران وحزب الله من سورية وقطع طريق إمداد المقاومة عبرها وإتاحة الفرصة لتدمير مقدرات الجيش السوري، ليست هدايا سوف تقابل بمنح الجوائز بل هي مجرد مكتسبات سوف يعقبها السعي لنيل المزيد من المكتسبات.

من هذين الاستعصاءين استعصاء ثالث هو الالتزام الإقليمي للحكم الجديد بالراعي التركي الذي يملك حساسية عالية تجاه بقاء السلاح بيد المكوّن الكردي، ما جعل الصيغة الفدرالية أو اللامركزية خطاً أحمر لا تستطيع الحكومة الجديدة تجاوزه، وبالتالي الالتزام بسحب السلاح من أيدي كل المكوّنات، حتى لا تسجل سابقة يستند إليها طلب المثل من الجماعات الكردية المسلحة، و”إسرائيل” الحاضرة بعد اهتزاز الطوفان للاستثمار في الخاصرة الرخوة الإقليمية وجدت في سورية ضالتها، ووضعت تفتيت سورية وتفكيكها على الطاولة، كما قال وزير مالية الكيان وأحد أركانها بتسلئيل سموترتيتش أول أمس، وكما قالت الغارات الإسرائيلية وتقول أمس، وصار على الحكومة ومن خلفها الراعي التركي الاختيار بين صيغة جديدة للحكم قائمة على التشاركية الكاملة تحصن المواجهة مع المشروع الإسرائيلي المتوحّش والانفتاح على تعديل موقع سورية الإقليمي نحو تحالفات تعبر عن هذه الحاجة التي تفرضها المواجهة، أو المضي قدماً بالوضع القائم وما فيه من مخاطر التفتيت والحرب الأهلية والنجاحات الإسرائيلية.

ناصر قنديل