في ظل تسارع الاحداث والتصريحات الصادرة عن الكيان الصهيوني وحزب الحرب في الولايات المتحدة يمكن للمرء أن يُصاب بإحباط وتشاؤم كبيرين. ويبدو ان رئيس وزراء الكيان الصهيوني مصمم على المضي في الحرب على غزّة والاستمرار في استهداف لبنان وسورية. لكن الهدف الأكبر والاستراتيجي هو استهداف الجمهورية الإسلامية في إيران لضرب أي قدرة لمحور المقاومة في الاستمرار في مواجهة العدوان الصهيوني وتهديده بالزوال. ويعتقد نتنياهو أنه يملك أوراق قوية لفرض على الولايات المتحدة الانخراط في حرب ضد الجمهورية الإسلامية بعد عجزه التام على القضاء على المقاومة في غزة ولبنان. والمشاكل الداخلية في الكيان تنذر بإنهاء حياته السياسية، بل ربما دخوله المرتقب إلى السجن. فالحرب هي الحل الوحيد الذي يراه ويعتمد بذلك على العصابات المتطرّفة الصهيونية التي تشكّل اليوم القوّة الوازنة داخل الكيان الصهيوني.
لكن بالمقابل هناك موقف الرئيس الأميركي الذي يدعم الكيان، ولكن ليس بالضرورة رئيس وزراءه سواء لأسباب شخصية كعدم وجود كيمياء بينهما ولأن الرئيس الأميركي لا يغفر لنتنياهو “خيانته” في تأييده لجوزيف بايدن في 2020. ومن الواضح ان اهتمامات الرئيس الأميركي هي الداخل الأميركي فيما يتعلّق بتقويض الدولة العميقة الذي عارضته وعرقلة مشاريعه في الولاية الأولى كما أن إعادة مكانة الولايات المتحدة في العالم تستدعي إعادة النظر في تركيبة الاقتصاد الأميركي. لسنا هنا في إطار نقاش جدوى مشروعه الداخلي، بل نحن في محاولة لتفكيك توجّهاته الخارجية بالنسبة للملفّات الساخنة التي ورثها من إدارة بايدن وخاصة فيما يتعلّق في شرق أوروبا وبغرب آسيا والمشرق العربي.
المعلومات المؤكّدة تفيد ان فريق العمل الوزاري لدى الرئيس الأميركي منقسم بين مجموعة يقودها الرئيس ترمب ونائب الرئيس جي. دي. فانس ومعه مديرة مكتب الامن الوطني تلسي غابارد والموفد الأميركي لروسيا وغرب آسيا ستيف ويتكوف. واولوية الاجندة هي “الداخل” وعدم التورّط في حروب خارجية. بالمقابل هناك فريق متصهين وينتمي إلى مجموعة المحافظين الجدد ويضم وزير الخارجية مارك روبيو ووزير الدفاع بيت هيغسيت ومستشار الامن القومي مايك والتز. ومن يدعم ذلك الفريق مجموعة من المتموّلين الكبار الصهاينة الذين يتوافقون مع اجندة الحكومة الصهيونية المتطرّفة في الكيان. وأولوية ذلك الفريق هو مواجهة روسيا “لأنها ضعيفة” ومواجهة الجمهورية الإسلامية في إيران لنفس الأسباب وكذلك الامر مواجهة المقاومة في فلسطين ولبنان التي طلقّت ضربات شبه قاسمة فلم تعد تشكّل خطرا وجوديا على الكيان وذلك على حد زعمهم وخطابهم السياسي.
في الملف الروسي الاوكراني يعمل فريق وزير خارجية الإدارة مارك روبيو على عدم التسرّع في مشروع تطبيع العلاقات الأميركية الروسية في الحد الأدنى وإفشالها كلّيا في الحد الأقصى. الموفد الأميركي الذي أوفده كل من روبيو ومايك والتس الجنرال المتقاعد كيث كيلّوغ يريد استسلام روسيا لسياسة الامر الواقع وتجميد الصراع وفقا لخارطة تقسيم برلين بعد الحرب العالمية الثانية. ولا تأخذ خطّته بعين الاعتبار المطالب الروسية في مقاربة جذور الازمة. يعتقد كيلّوغ ومعه روبيو ووالتس أن روسيا تكبّدت خسائر فادحة في المواجهة العسكرية والدليل على ذلك “عدم التقدّم” الكبير في الجغرافيا الأوكرانية. كما يعتقد أن الاقتصاد الروسي على وشك الانهيار وبالتالي القدرة على الصمود غير متوفرة. هذا الاعتقاد ينفيه قائد المنطقة الأوروبية الجنرال كافولي الذي يعتبر أن روسيا تكبّدت خسائر كبيرة في العتاد والعديد لكنها استطاعت أن تعوّض عن ذلك وأن إنتاجها العسكري يفوق إنتاج كل دول الحلف الأطلسي مجتمعة بما فيها الولايات المتحدة. وبالتالي لا يشارك رأي زميله كيلوغ. فأين الموقف الفعلي للإدارة من كل ذلك؟
شخصية الرئيس الأميركي تدلّ على أنه صاحب القرار الأول والأخير. حتى الساعة ما زال مصرّا على تطبيع العلاقات مع روسيا ومن خلال ذلك التطبيع يعتقد أنه بإمكان وقف الحرب في أوكرانيا. بالمقابل، فإن الموقف الروسي يعتبر أن تطبيع العلاقات امر جيّد، ولكنه لن يحصل قبل وقف الحرب في أوكرانيا ما يعني مقاربة جذور الحرب وتلبية حاجات الامن الروسي التي أعلن عنها الكرملين في وثيقتين ارسلتا لإدارة بايدن في كانون الأول 2022 والتي كرّرها مرارا كل من الرئيس الروسي بوتين ووزير خارجيته سرجي لافروف وثلّة من المسؤولين الكبار في مختلف الوزارات الروسية. وعلى ما يبدو فإن الخارجية الأميركية ما زالت تتجاهل تلك الطلبات بينما ابدى الرئيس الأميركي تفهّما نسبيا للموقف الروسي وكذلك ستيف ويتكوف.

لكن حتى الساعة لم يقدم الرئيس الأميركي على أي خطوة جدّية لإيقاف الحرب خاصة فيما يتعلّق بالإمدادات العسكرية والاستخباراتية للقوّات الأوكرانية ناهيك عن الدعم المالي. فإيقاف التدفّق المالي كفيل بإيقاف الحرب، ولكن ليس في الأفق ما يدلّ على الاقتراب من تلك الحال. المهم هنا ان الحوار القائم بين إدارة ترامب وروسيا التي أطلقتها مكالمة هاتفية بين ترامب وبوتين أبعدت شبح المواجهة العسكرية المباشرة بين البلدين وخطورة الانزلاق إلى مواجهة نووية.
من الواضح أيضا أن الموقف الأوروبي معاد بشكل واضح وشرس للتقارب الأميركي الروسي ويعمل بكل جهد على إفشاله عبر امتداداته الداخلية في الدولة العميقة الأميركية. لكن وزن الموقف الأوروبي العسكري والاقتصادي لا يؤّهل دول الاتحاد في خوض مواجهة مباشرة مع روسيا دون مشاركة الولايات المتحدة. حتى اللحظة ليس هناك من دليل أن الرئيس الأميركي على استعداد للاستجابة للموقف الأوروبي. فاللقاء الذي تمّ بين الرئيس الروسي والموفد الأميركي ويتكوف والذي كان على أكثر من أربع ساعات دليل جوهري حول جدّية الحوار والتمسّك به للوصول إلى حلول لوقف الحرب في أوكرانيا. وهذه المباحثات سبقت اللقاء الأميركي الإيراني بأقل من 24 ساعة والتي تلت أيضا مشاورات روسية إيرانية صينية. والعالم اليوم بانتظار ما سيخرج من المفاوضات التالية بين الوفد الإيراني والوفد الأميركي في روما.
المراهنة عند المحافظين الجدد والصقور المتصهينين في الولايات المتحدة على مواجهة عسكرية مبنية بشكل عام على فرضيات خاطئة وسوء تقدير للموقف وموازين القوّة. فالفرضيات الخاطئة هي الاعتقاد أن الكيان الصهيوني استطاع تدمير وسائل الدفاع الجوّية لإيران وبالتالي أي هجوم واسع النطاق من قبل الكيان والولايات المتحدة سيطيح بالبرنامج النووي ما سيؤّدي إلى إذلال الجمهورية الإسلامية وبالتالي إلى تغيير النظام وربما لعودة نظام الشاه. لكن داخل الإدارة هناك من يعتقد أن تدمير وسائل الدفاع الجوّية الإيرانية أمر مبالغ به وبالتالي يجب تجنّب الحذر. هذا الموقف يتبنّاه كل من نائب الرئيس الأميركي فانس ومعه مديرة مكتب الاستخبارات الوطنية غابارد التي أصدرت قبل بدء المفاوضات في الرياض تقريرا استخباراتيا ينفي وجود برنامج نووي عسكري في إيران. إذا، ماذا ستكون الذريعة للهجوم على إيران؟ الموضوع بالنسبة للصقور والمتصهينين في الإدارة الاميركية ليس البرنامج النووي ولا نسب التخصيب، بل قدرة إيران على تشكيل خطر وجودي على الكيان الصهيوني ودعمها لفصائل المقاومة في لبنان وفلسطين والحوثيين في اليمن. فإذا محاولات القضاء على المقاومة في لبنان وغزة فشلت عسكريا، وإذا محاولات تقويض الحوثيين في اليمن فشلت بعد حملات القصف المستمر لمدة أكثر من 15 شهر فما هي المقوّمات التي تجعل الصقور في إدارة ترمب يعتقدون بإمكان الولايات المتحدة تحقيق أنجاز عسكري ضد إيران؟ بل العكس، فإن احتمال الفشل كبير جدّا، بل ينذر بكوارث عسكرية أميركية لن تستطيع إدارة ترمب استيعابها. فالهزيمة العسكرية قد تشكّل ضربة قاسمة لما تبقّى من هيبة للولايات المتحدة في المنطقة وفي العالم والتصعيد نوويا ينذر بكوارث قد تطال الشواطئ الأميركية. فلن تقف روسيا والصين وعدد من الدول النووية الأخرى كباكستان وكوريا الشمالية إذا ما لجأت الولايات المتحدة إلى الخيار النووي، فهذه سابقة خطرة لن تقبلها تلك الدول. فالتعويض عن الخسارات الميدانية التي قد تلحق بالولايات المتحدة بسبب سوء التقدير للإمكانيات الدفاعية لإيران وحتى مدى المساعدة التي قد تتلاقاها من روسيا والصين اللتان تربطهما بعلاقات واتفاقات استراتيجية مع إيران لن تكون باللجوء إلى السلاح النووي. وينطبق ذلك الامر أيضا على الكيان الصهيوني إذا ما فكّر باللجوء إلى ترسانته النووية. فهذه قد تكون نهاية الكيان.
الجمهورية الإسلامية في إيران كانت واضحة في أن موضوع المفاوضات محصور بالملّف النووي. فلن تقبل البحث في الترتيبات الداخلية في إيران كما لن تقبل تقويض سيادتها عبر التخلّي عن حلفائها في الإقليم. المفاوضات التي بدأت هي محصورة بالملف النووي وإن كانت هناك تصريحات من قبل الطرف الأميركي أن الموضوع قد يشمل ملفّات أخرى. لم تقبل إيران في السابق بذلك عندما كانت موازين القوّة ليست لصالحها. ففي السنوات التي سبقت الاتفاق الذي تمّ الوصول إليه سنة 2015 لم تكن العلاقات مع بلاد الحرمين جيّدة، بل كانت في منتهى التوتر. كما أن العلاقات مع روسيا وإن كانت جيّدة إلاّ أنها لم تكن بالمتانة التي تمتاز بها الان وخاصة بعد توقيع الاتفاق الاستراتيجي في مطلع 2025. وأيضا لم تكن الجمهورية الإسلامية في إيران عضوا في منظومة بريكس ومنظومة شنغهاي.

هذه المتغيّرات لصالح الجمهورية الإسلامية قد تمكّنها من تقديم تنازل في موضوع الملف النووي وهو التعهد بأن مدّة الالتزام بعدم تكثيف التخصيب فوق نسبة سيتم الاتفاق عليها محدودة بفترة زمنية كتلك التي كانت في اتفاقية 2015. يستطيع الرئيس الأميركي أن يقول إنه انتزع اتفاقا بعدم تكثيف نسب التخصيب لفترة غير محدودة. لكن داخل الإدارة وفي الكونغرس الأميركي من يريد التصعيد وعدم الوصول إلى أي اتفاق. المشكلة ليست عند الجمهورية الإسلامية، بل في الولايات المتحدة. والرئيس الأميركي بحاجة إلى إنجاز دبلوماسي سواء في شرق أوروبا أو في غرب آسيا أو في المشرق العربي. فأي من هذه الإنجازات هي التي ستقوّى موقفه الداخلي لاستكمال اجندته الداخلية التي هو اولويته. والاتفاقات أو الصفقات التي يريدها هي حاجة أميركية أكثر مما هي حاجة روسية، أو إيرانية، أو فلسطينية، أو حتى لبنانية. فهل يستطيع الرئيس الأميركي تجاوز العقبات الداخلية التي تحول دون الوصول إلى تلك الاتفاقات؟ هذا ما سنكتشفه في الأسابيع القادمة.

زياد حافظ*
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي ونائب المنتدى العربي والدولي للتواصل والتضامن