كتب ناجي على أمهز
أمام حراكٍ دوليٍ محموم، غير مسبوقٍ في توقيته ولا في إيقاعه، يتقدّم المشهد زحفُ الأساطيل الحربية الأميركية الثقيلة نحو مياه الخليج، تصحبها أسراب الطائرات الاستراتيجية العملاقة من طراز “بي 2 سبيريت”، التي لا تتحرّك إلا في مواقيت الحروب الكبرى، وقد اتخذت مواقع هجومية قريبة من إيران، وكأنّها تتهيّأ لضرب القلب النابض للبرنامج النووي الإيراني.
في ذروة مشهدٍ دولي مشحون، تصدّرت التصريحات النارية للرئيس الأميركي دونالد ترامب واجهة التصعيد، وهو يقرع طبول الحرب بصوته الأجشّ:
“إذا فكّرت إيران بتهديد المصالح الأميركية، فستواجه قوة لم يشهدها العالم من قبل… لن أسمح لها بامتلاك سلاح نووي أبداً، وإذا أرادت الحرب، فستكون نهايتها الرسمية.”
لم تكن هذه مجرد تهديدات عابرة، بل حملة تصعيد متواصلة، أعلن فيها صراحة أن “الخيار العسكري على الطاولة دائماً”، وغرّد كمن يطلق الرصاص:
“نملك أعظم وأقوى جيش في العالم، ونحن جاهزون.”
ترامب على وشك إصدار أمر بالضربة: إيران تحت التصويب.
كل تصريح كان كأنه طلقة، وكل تغريدة تنذر بانفجار، والعالم يقترب أكثر من حافة اللهيب، حيث تُرسم حدود النار بمداد الغضب الأميركي، وتقرأ رسائل الحرب على جناح طائرات لا تُقلع إلا حين تشتعل السماء.
ومع تصفيق حارّ من أعداء إيران، وفي مقدمتهم إسرائيل، تزايدت وتيرة التحريض، وسط ضخ إعلامي عربي غير مسبوق، يشجّع على توجيه ضربة عسكرية لطهران، ويغذّي جنون ترامب، محاولاً دفعه إلى إشعال الحرب وتفجير فتيل المواجهة.
لكن إيران، في مواجهة كل هذا الضجيج، لم ترفع صوتها، او يرف جفنها، بل اكتفت بردّ واحد، حاسم حازم واضح وجارح في بساطته.
ردٌّ يشبه الصفعة… لا إستعراض، لا ضجيج و”هوبرات”، فقط ثبات كالجبل في وجه العاصفة.
“نحن لا نخاف التهديد. نحن جاهزون للحرب. لا يوجد ما هو أعظم من الكرامة والعزّة الإيرانية، ومن يتطاول علينا سيندم.”
وفجأة، ودون مقدمات، تغيّرت النبرة. أرسل ترامب رسالة شخصية مباشرة إلى سماحة الإمام آية الله السيد علي الخامنئي، جاء فيها:
جناب آية الله خامنئي،
مع الاحترام لمكانة قيادتكم ولشعب إيران، أكتب لكم هذه الرسالة بهدف فتح آفاق جديدة لعلاقاتنا، بعيدًا عن سنوات النزاع وسوء التفاهم والمواجهات غير الضرورية التي شهدناها في العقود الماضية. لقد حان الوقت لنترك وراءنا العداء ونفتح صفحة جديدة من التعاون والإحترام المتبادل.
اليوم أيضًا، هناك فرصة تاريخية أمامنا. الولايات المتحدة الأميركية، تحت قيادتي، مستعدة لاتخاذ خطوة كبيرة نحو السلام ورفع التوتر. نستطيع معًا إزالة العقوبات، تمكين الإقتصاد الإيراني، وفتح أبواب التعاون بين بلدينا، ليس فقط لمصلحة شعبينا، بل لمصلحة الإستقرار والسلام في الشرق الأوسط والعالم أجمع..
وبعد رسالة ترامب، بدأت المفاوضات غير المباشرة، تمامًا كما أرادت إيران، وعبر الوسيط العُماني، كما طلبت هي، لا العكس.
وكان النقاش، بكل بساطة، يبدو كمشهد عبثي لا يُصدّق:

  • الجانب الأميركي: ممنوع على إيران امتلاك السلاح النووي.
  • الجانب الإيراني: نحن لا نريد امتلاك السلاح النووي. هذا محرَّم في عقيدتنا.
  • الجانب الأميركي (مذهولًا): يا إلهي! أنتم لا تريدون السلاح النووي؟
  • الجانب الإيراني: نعم، لا نريده للأغراض الحربية، هذا موقف ديني وعقائدي.
  • الجانب الأميركي: لم نكن نعلم ذلك… كل التقارير التي تصِلنا تقول إنكم تسعون له.
  • الجانب الإيراني: الفتوى الشهيرة للإمام الخامنئي واضحة: “لا يجوز امتلاك السلاح النووي.”
  • الجانب الأميركي: إذًا، لا داعي للحرب ولا للقتال بيننا.
  • الجانب الإيراني: بإمكانكم إرسال لجنة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتأكّد بأنفسكم.
    وهنا، فجأة، هتفت أميركا، وصفّقت إسرائيل، وطبّل الإعلام العربي:
    لقد انتصر ترامب! انتصر ترامب!
    ولكن… على ماذا انتصر بالضبط؟
    هل إنتصر لأنه ضجّ الدنيا ولم يُقعدها ليكتشف في النهاية ما يعرفه حتى الأطفال؟ أن إيران، أصلًا، لا تريد السلاح النووي؟
    استفيقوا… إنها إيران، بلاد فارس، إمبراطورية الحضارة، عاصمة الفلسفة، ومصنع القوة العسكرية.
    أما نحن، العرب… فأعذروني، لا أملك ما أقوله بعد ما رأيناه في غزّة، وفي لبنان، وفي سوريا.
    لا أعرف ما هو دورنا بالتحديد على وجه الكرة الأرضية.
    لا أعلم ما الذي يحرّك فينا ذرة من إنسانية، أو على الأقل، بعض الحميّة.
    كل ما أعلمه أننا خرجنا من الزمن، وخرجنا من الحقيقة…
    تجاوزتنا الأمم، وصرنا خارج الأرض، خارج التاريخ، خارج المعنى.
    الآن، يجلس ترامب في البيت الأبيض، محاطًا بفريقه المالي، لا ليخطط للحرب، بل ليحسب التكاليف.. كم ستبلغ فاتورة هذه “المعركة” التي سيدفعها العرب بمئات مليارات الدولارات.

ترامب “انتصر” ـ كما زعم ـ لأنه منع إيران من امتلاك السلاح النووي…
ذلك السلاح الذي لم تكن إيران تريد امتلاكه أصلًا.
انتصارٌ يُدفع ثمنه من جيوب الشعوب العربية التي لم تتنعم يوما بكل هذه الاموال، لا لشيء، سوى لأنهم عاجزون عن مواجهة الحقيقة.
الحياة وقفةُ عزّ.. وإيران عزيزة، لأنها في كل لحظة تختار هذه الوقفة، مهما غلا الثمن، ومهما اشتدّ الخطر.. لا تقف دفاعًا عن حياة زعيم أو حماية قائد، فزعماؤها وقادتها يتسابقون إلى الشهادة، ويمضون إلى الموت واقفين في ساحات المعارك، كأنهم خُلقوا ليكونوا رايات، لا رؤوساً ولارؤساء،
الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، لم تُثنه العواصف المناخية العاتية، ولا التهديدات الأمنية المباشرة، عن أداء واجبه الوطني، حين استدعت مصلحة إيران وجوده في أذربيجان، ذهب، لم يتردد، لم يتراجع، وحين عاد، تحطّمت مروحيته في أعالي جلفا، بين الجبال الوعرة، وسط طقس لا يرحم.
في المقابل، وفي معظم الدول العربية، لا يجرؤ “الزعيم” على مغادرة منزله إلى الطريق العام، إلا بعد التأكّد من الطقس، وتمشيط الشوارع، وإخلائها من المواطنين، ثم يُغلَق كل شيء… لأن الموكب سيمر.
هنا رئيس يغامر بحياته من أجل وطنه، وهناك زعيم يخاف من ظلال الناس على أرصفة المدن التي يحكمها.
ففي إيران، القيادة ليست امتيازًا، بل تضحية، والدم لا الخطابات، هو من يرسم مستقبل الأوطان، وبغير الشهادة، وبغير البذل السخيّ في سبيل الأرض، لا تنهض الدول، ولا تكتب الأمم مجدها في كتب التاريخ.
أيّتها الشعوب العربية، إيران ليست عدوّكم..
أيّتها الأقليّات، إيران ليست من يخيفكم.. بل هي من احتضنكم.
حتى المسيحيون واليهود في إيران، يتمتعون بكامل حقوقهم، وليس ذلك فضلًا من أحد، بل حقٌّ راسخ لكل مواطن إيراني، في دولة قامت على مبدأ الإنسان قبل العنوان.
أيها العالم،
إيران لا تدعو إلى حروب ولا صِدام، بل إلى حوار الحضارات والأديان، تُحاور بالفكر، وتواجه بالكرامة، وتقف في وجه الهيمنة بثبات الأرض لا بضجيج الشعارات.
أمّا أنتم يا سادة القرار العالمي، أنتم تعرفون، وتعرفون جيّدًا..
أن لولا إيران، لاجتاح فكر الكهوف، من تورا بورا إلى قلب بغداد، ولحكم الظلام العالم العربي، وسقطت المدن واحدة تلو الأخرى، ولربما وصلوا إليكم، إلى أوروبا نفسها، وكنّا اليوم نعيش في زمنٍ أقرب إلى القرون الأولى منه إلى الحاضر.
إيران، رغم كل الحصار، بقيت حائط الصدّ، لم تخن رسالتها التي تحملها من فكر الإمام علي بن أبي طالب مؤسس أول ديمقراطية وعدالة إجتماعية في العالم العربي والإسلامي.