«ولَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ»
قرآن كريم (البقرة: 99)
«إنه ينهض قبل بزوغ النهار، يتأمل كثيراً وبحذر، كأنه في شراكة مع شجرة عجوز ثابتة في الأرض، فيما يتكئ بذقنه على آخر نجم يتلاشى، فيرى هناك في نهاية السماء المضطربة أشياء عظيمة ونقية تتكشف عن فرح وسعادة في المستقبل».
سان جون بيرس «اناباسيس (الصعود)»
… وفي اليوم الثالث والعشرين من شباط عام 2025، ستودع أمتنا أملها الأجمل والأكثر إشراقاً وسطوعاً لقرون خلت. سنودع أجمل أحلامنا وأبهاها، وأكثرها إلهاماً منذ قَهرَتْ أمتُنا الغزوتين الصليبية والمغولية بدماء أبطال يقاتل أحفادهم اليوم مغول العصر ببسالة تدهش العالم. سنودع أحسن من فينا، وأفضل من فينا، وأشرف من فينا، وأكرم من فينا، وأنبل من عرفنا وعرفت أمتنا لأجيال. سنودع من دافع، بكل ما استطاع، عن شرفنا وكرامتنا وإنسانيتنا حتى الموت، بلا تردد ولا تراجع ولا ضعف.
في اليوم الثالث والعشرين من شباط عام 2025، سيكون وجعنا كبيراً جداً وقاسياً جداً وصعباً جداً. فليس في كل التاريخ الحديث لأمتنا المحاصرة والمستهدفة والمستضعفة، ولم يكن لقرون مضت، وربما لن يكون أبداً، قائد فذ بطل عظيم شجاع حكيم شريف مؤمن مستبصر بصير، صاحب رؤية فذة وأكثر شجاعة وطهارة من سيد شهدائنا. وليست في كل تاريخ لبنان وتاريخ شعبه، وربما لن تكون أبداً، فكرة أجمل وأعظم وأرقى وأطهر وأشرف وأكثر وطنية وأخلاقاً من اللبناني الأفضل والشهيد الأقدس، السيد حسن نصرالله. وليس في كل تاريخ فلسطين المستعمَرة وتاريخ شعبها المظلوم والمعذب، ولم يكن منذ بدأت الهجمة الاستيطانية الأوروبية البيضاء على بلادنا، قائد عربي وبطل عظيم ظل على طول عمره الشريف يحترق كشمس ساطعة ليضيء لنا الطريق المظلم والصعب نحو القدس.
في اليوم الثالث والعشرين من شباط عام 2025، ستودع أمتنا فكرتها الأكثر عبقرية وجمالاً وبصيرة وإنسانية، وأيضاً الأكثر شجاعة وتضحية وإيماناً وفداء. فلم يكن في كل تاريخ العرب، ولقرون خلت، قائد عربي ومسلم «أشد للحرب والمقاومة مراساً، وأقدم فيها مقاماً من السيد الشهيد. نهض فيها وما بلغ العشرين، واستشهد في سبيلها وقد تجاوز الستين»، ولم يتردد، ولم يتعب، ولم يساوم، ولم يتراجع، ولم يضعف، ولم يهن حتى طرفة عين.
في اليوم الثالث والعشرين من شباط 2025، سيكون على قلوبنا أن تحتمل وجعاً ليس مثله أي وجع عرفناه قبلاً، أو وتعافينا منه سابقاً، أو حتى تعلمنا التعايش معه مراراً. في اليوم الثالث والعشرين من شباط 2025، سيكون علينا أن نودع مؤسس مقاومتنا، ورمز رجولتنا، وعنوان كرامتنا، وروح تاريخنا، وأيقونة ثقافتنا، ودرة حضارتنا، وفكرة أمتنا الأجمل لقرون، بروح مكسورة لن ينجينا من صعوبتها سوى حبنا الكبير له وحبه العظيم لنا والتزامنا الكامل وإيماننا المطلق بطريقه ونهجه. فمن منا جميعاً سيستطيع حتى مجرد أن يدرك أن سيد الأمة وسيد شهدائها، عقلها الفذ وعقلنا، قلبها الأجمل وقلبنا، روحها الأزكى وروحنا، قد استشهد ورحل عنا إلى الأبد؟
من سيتمكن منا أصلاً حتى أن يتخيل أن هذه القامة العظيمة، وهذا القديس المهيب، لن يقف أمامنا مرة أخرى، ولن يطلّ، كما فعل باستمرار، على أمة كانت دوماً تنظر إليه وتنتظره، لا أحد غيره، كلما احتاجت سداً منيعاً أمام أي انتهاك، وكل انتهاك لشرفها وكرامتها، فيُنزِل علينا بكلماته السكينة والطمأنينة، برغم كل حروب الأعداء الدموية وهمجيتها. من سيقدر منا أصلاً حتى أن يقبل أن يتخيل أن عبقرية ذلك العقل الفذ والمدهش قد توقفت، وأن نبضات ذلك القلب الشجاع جداً قد هدأت إلى الأبد. من منا سيستطيع حتى أن يصدق أن سحر ذلك اللسان العربي البليغ، الذي كان يتحدث إلينا وإلى العالم ويحاورنا ويعلمنا ويثقفنا ويُنزل في قلوبنا السكينة والطمأنينة، كما لم يتحدث أي لسان آخر، قد سكت إلى الأبد؟ من له أن يتخيل أن مؤسس مقاومة أمتنا وقائدها وصوتها الأعلى وضميرها الأنبل وروحها الأجمل قد رحل عنا.
نعرف أنه يندر جداً، وقد لا يكون ممكناً أصلاً، أن تمر أي أمة أو شعب بمثل هذه اللحظات المؤلمة والقاسية والثقيلة التي ستطل علينا بكل أوجاعها وعذاباتها وآلامها في تلك الساعات من يوم الثالث والعشرين من شباطـ. لكننا يومها، لا ولن نطلب حتى الإذن بالانحناء عند قدميه والبكاء طويلاً، طويلاً. بل سنطالب بذلك كحق لنا، حتى وإن كنا نعرف، حتى وإن كنا نؤمن، وحتى وإن كنا على يقين، أن ذلك سيكون امتيازاً كبيراً، وتشريفاً عظيماً، وتكريماً هائلاً لكل عربي ومسلم وشريف يفعل. لقد كان سيد شهداء أمتنا ينتمي إلينا وإلى بلادنا وأمتنا وقضايانا كما لم ينتمِ إليها وإلينا أي قائد عربي أو مسلم آخر لقرون مضت، ولا يمكن لنا، لذلك، أو لأي أحد آخر أن يدّعي وجود رجال مثله وبمقامه في زمننا. فلقد كانت مسيرة شهيدنا التي عشناها معه يوماً بيوم، ولحظة بلحظة، وكنا شهوداً عليه وعليها، عظيمة وفذة ومدهشة، أكثر مما كان يمكن لنا حتى أن نحلم أو نطلب أو نتخيل أو نتمنى. لهذا، وغيره وأكثر، ملأ، وسيظل كذلك، اسمه وصوته وروحه الكون كله، من أقصاه إلى أقصاه. ولهذا وغيره وأكثر، سوف تظل ذكراه باقية حية أبداً، ما دام هناك عربي أو مسلم أو شريف ينطق بالحرف والكلمة في هذا العالم.
قاهر «إسرائيل»: الفلسطيني الأجمل
في اليوم الثالث والعشرين من شباط عام 2025، سيودع العالم في لبنان أفضل اللبنانيين إطلاقاً. فلقد كان، بحبه العظيم وتضحياته الهائلة من أجل لبنان وأهله، أكثر لبنانية من أي لبناني عرفته بلاد الأرز إطلاقاً. نعم. لقد فَضَّلَكم الله، يا أهل لبنان، علينا وعلى العالمين، بأن تفضل عليكم وجعله واحداً منكم. لكنه تفضّل علينا أيضاً وفضّلنا على العالمين بأن جعله فلسطينياً بحبه اللامحدود لفلسطين وأهلها وحب فلسطين وأهلها اللامحدود له.
لذلك أيضاً، وغيره وأكثر، ستودّع فلسطين، في أصعب اللحظات في تاريخها، من كان، وسيظل أبداً، أكثر فلسطينية من أي عربي أو مسلم، أو حتى من أي فلسطيني إطلاقاً. لقد كان سيدنا الحبيب فلسطينياً بقلبه وروحه حتى النهاية، يحب فلسطين وأهلها وتحبه فلسطين ويحبه أهلها. لقد أحب فلسطين وأحب أهلها جداً حد استشهاده سعيداً على طريقها وفي سبيلها وسبيلهم. لذلك وغيره وأكثر، لم يكن شهيدنا الأقدس أكثر المسلمين فلسطينية فقط، أو حتى أكثر العرب فلسطينية كذلك، بل ولا حتى أكثر الفلسطينيين فلسطينية. لقد كان هذا السيد العظيم هو الفلسطيني الأجمل إطلاقاً، والفدائي الأطهر والأكثر إخلاصاً على طريق فلسطين والقدس، وكأنه أراد لمعرفته الأكيدة بعشقنا الكبير له أن يعطينا سبباً جديداً وقوياً آخر لنحب فلسطين أكثر، إن كان ذلك ممكناً، وأراد أن يعطينا سبباً آخر وقوياً حتى لا نتردد بالموت من أجلها، إن لزم الأمر.
سيودع العالم أفضل اللبنانيين إطلاقاً وستودّع فلسطين من كان وسيظل أكثر فلسطينية من أي عربي أو مسلم أو فلسطيني وستودع الإنسانية من كان أكثر عروبة من أي عروبي، وإسلاماً من أي مسلم، وإنسانية من أي إنسان أنجبته نساء هذه الأمة لقرون خلت
في اليوم الثالث والعشرين من شباط عام 2025، سيكون الألم قاسياً جداً. فلسوف تودّع أمتنا وستودع الإنسانية من كان أكثر عروبة من أي عروبي، وإسلاماً من أي مسلم، وإنسانية من أي إنسان أنجبته نساء هذه الأمة لقرون خلت. سنودع واحداً منا، من لحمنا ودمنا، ولد مثلنا جميعاً من لحم ودم، ولكنه كان مقدراً أن يكون عظيماً، يؤسس أعظم وأشجع مقاومة ويقودها ضد أكثر بؤر التوحش والظلم والاستكبار في العالم وأكثرها همجية وكأنه رجل من فولاذ.
وفي اليوم الثالث والعشرين من شباط 2025، ستودع أمتنا والعالم قاهر «إسرائيل»، ومحطّم فكرتها والمؤسس، بجهاده ودمه الشريف، لزوالها. سنودع من أثبت فعلاً وقولاً للأمة وللعالم بأسره، وللكيان البغيض أيضاً، أن «إسرائيل» هذه تقهر، وأنها «أوهن من بيت العنكبوت»، وأنها ليست باقية ولا قائمة إلى الأبد، كما بدا لها وللكثيرين من العرب المهزومين وحكامهم ونخبهم وحتى مثقفيهم حتى قهرها سيد الشهداء وجيشه العظيم وحطم فكرتها إلى الأبد. في اليوم الثالث والعشرين من شباط 2025، سنودع من قاد جيشاً عظيماً من المقاومين المدهشين البواسل لأربعين عاماً ليعيد الاعتبار للتاريخ والحقيقة بتحطيمه وهزيمته للأسطورة التي قامت عليها أسطورة الكيان وعصابات جيشه.
لم يولد ليموت
لم يكن سيد شهدائنا في حياته الشريفة مجرد قائد أو زعيم ثوري آخر عرفته الأمة والعالم في الموقع المضاد لمنظومة الهيمنة الكونية المتوحشة، بل كان القائد الأهم والأقدر والأشجع والأذكى والأكثر براعة في مواجهتها أيضاً، ليس في الميدان فقط، بل وفي معركة الثقافة أيضاً. فرغم الثقل الهائل لمهمة قيادة مقاومة أمتنا لعقود دفاعاً عن وجودها وحقوقها وكرامتها وشرفها في وجه أعتى الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ وأكثرها وحشية، كان السيد أيضاً المعلم الذي حمل على عاتقه مسؤولية التصدي لغزو أيديولوجي كاسح لم يعرف تاريخ العالم مثيلاً له. فلقد قاد السيد الشهيد ولعقود طويلة مهمة إعادة تثقيف أمة كاملة في مواجهة الغزو الثقافي الاستعماري الكاسح وغير المسبوق الذي يستهدف كل العالم، وتحريرها من القابلية للخضوع والذل والاستكانة. ورغم أن منظومة الهيمنة الكونية تستند إلى خطاب ودعاية وبنية تحتية هائلة من أدوات صناعة الأيديولوجيا ومؤسساتها (مراكز أبحاث، جامعات، إعلام، سينما، دور نشر، إلخ) بإمكانات إمبراطورية هائلة وخيالية مالياً وتقنياً وبشرياً، لم يكن في الطرف المقابل في كل المنطقة العربية، وحتى في جزء كبير من العالم حقاً، إلا رجل واحد وحيد، يتصدى لها ويحاربها ويعمل على نشر وتعميم الثقافة المضادة للهيمنة لتحرير عقول الناس وفك أسر أرواحهم من قيود الذل والتبعية وينتصر كما سيشهد العالم.
كان السيد الشهيد أيضاً، القائد والمنظّر السياسي الأهم لأجيال، بسبب قدرته الاستثنائية على ترجمة الرؤية السياسية والنظرية إلى خطوات عملية ملموسة واشتقاق برامج عمل للمقاومة لا ولم يضاهِه، ولا ولم يتفوق عليه فيها، أي قائد آخر في كل تاريخ حركات التحرر في التاريخ الحديث. فلم تكن مجرد مصادفة أن يتمكن السيد الشهيد، المنظّر السياسي العربي الأكثر براعة والأهم لأجيال خلت، وفي مدة قياسية أن يرتقي بعدد قليل من مجموعات الغوار التي تأسست لمقاومة الغزو الصهيوني للبنان في 1982 إلى قوة إقليمية استطاعت هزيمة العدو مراراً. ولم تكن مصادفة أيضاً أن يتمكن السيد الشهيد من إسقاط كل المخططات الغربية المستمرة لإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمتطلبات المصالح الإمبريالية والصهيونية، رغم ما يعنيه ذلك من الاصطدام بمصالح وقوى محلية وإقليمية (وحتى عربية) وعالمية هائلة، تفسر إلى حد كبير الحملات المتواصلة عليه شخصياً وعلى المقاومة الإسلامية في لبنان.
لكن، ربما يكون الإنجاز الأهم للسيد الشهيد نصرالله، أنه أقام بحياته وجهاده واستشهاده الحجة القاطعة على كل التقاليد السياسية والفكرية العربية والإسلامية في العصر الحديث، كما على كل الحركات والأحزاب السياسية العربية بتنوعها وتنوع مشاربها الفكرية، وعلى المقاومين والمثقفين العرب فرادى ومجتمعين منذ سؤال النهضة الأول في القرن التاسع عشر وسيظل يقيمها، رغم استشهاده (وبسببه أيضاً)، إلى ما بعد يوم التحرير: أن أمتنا، بتاريخها وثقافتها وحضارتها وعقائدها وبشرها ومقدراتها، تمتلك فعلاً وبلا أي ذرة شك، كل مقومات المواجهة والانتصار والتحرر وتحرير فلسطين ومقدراتها.
إنجاز الشهيد نصرالله الأهم، بالتالي، أنه أقام الحجة القاطعة للقضية العربية والإسلامية وللفكرة العربية-الإسلامية بشكل مدهش لم نعرفه ولم يعرفه العالم من قبل. وإنجاز الشهيد نصرالله الأهم الآخر أنه أيضاً، بتجربته المدهشة أقام الحجة القاطعة على كل قوى التحرر والمقاومة في العالم: أن أمتنا (تاريخاً، وثقافة، وحضارة، وعقائد، وبشراً ومقدرات)، وحركاتها المقاومة يمكنها أن تقدم المساهمة الأهم، فكراً وممارسة، للثورة العالمية وتحرير العالم، وليس فقط تحرير بلادنا وفك أسر شعوبنا من قيود الهيمنة والاستغلال والتوحش.
لهذا بالضبط، توقف سيد شهدائنا منذ وقت طويل عن أن يكون مجرد مواطن لبناني، أو عربي، أو حتى مسلم. كانت هذه التصنيفات أصغر كثيراً من أن تحتويه وتحتوي هذه الطاقة الإنسانية والجهادية الهائلة. فلم يكن شهيدنا الحبيب مجرد قائد آخر لحركة مقاومة عظيمة أخرى في سجل طويل من الحركات العظيمة والقادة الاستثنائيين. فليس فقط أنه أصبح ومنذ عقود القائد التحرري الأممي الأهم والأعظم لعقود خلت، بل وشكّل أيضاً بشخصه ومواصفاته وموهبته وتجربته الفذة نقطة تحول كبرى في تاريخ الثورة العالمية سيكون من المستحيل معها وبها أن يعود بعده كما كان قبله أبداً.
كان شهيدنا العظيم يعرف، كما تعلمنا منه، أن طريقه، وطريقنا من بعده، ستكون طويلة وصعبة ومؤلمة لكنها ستصل بنا حتماً نحو عالم أفضل وأجمل وأكثر عدلاً وحرية، قدم السيد حياته من أجله. لهذا، وغيره الكثير الكثير، سنودعه في يوم الثالث والعشرين من شباط 2025. سنبكي بحرقة، وسنبكي بحسرة، وسنبكي بألم. لكننا نعلم علم اليقين، أن شهيدنا الأعظم والأقدس، السيد حسن عبدالكريم نصرالله، سيكون بلا أدنى شك أحد الأسماء الخالدة القليلة جداً التي لم تولد لتموت.
*كاتب عربي(د.سيف دعنا )