كتب الأستاذ ناصر قنديل..
– لا ينفصل موقف الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم برفض تمديد مهلة الستين يوماً للحظة واحدة بعد نهايتها، عن الصورة التي يقدّمها الحاصل الإجمالي للحرب الدائرة منذ ستة عشر شهراً على جبهتي غزة وجنوب لبنان، والمساهمة العظيمة التي قدّمتها جبهة اليمن وسائر أطراف محور المقاومة خلالها، وقد تعرّض المشهد الذي تقدّمه الحرب لعناصر الجذب والمدّ والجزر وفقاً لما شهدته يوميات الحرب بصورة جعلت القراءة الإجماليّة لنتائج الحرب حاضرة في تفسير خلفية تصرّف المقاومة في لبنان وغزة كأطراف تستشعر قوّتها رغم التضحيات والجراحات النازفة، وتعتبر أن الجراحات الإسرائيلية أشدّ عمقاً وجذرية وخطورة من جراحاتها، ما يستوجب التشدّد في منح الاحتلال أي فرصة لمداواة جراحاته أو التصرف كمنتصر لإخفائها.
– منذ اتساع نطاق الحرب في لبنان صارت الدعوة لوقف إطلاق النار فوراً مطلباً مشتركاً للمقاومة في غزة ولبنان، على قاعدة الانسحاب الكامل للاحتلال دون تحقيق أي مكاسب في الأمن والسياسة. وكان جواب الاحتلال في غزة، أن لا انسحاب بالمطلق، ثم بعدما بدأ جيشه يشعر بالإنهاك أن لا انسحاب على الأقلّ من مناطق ضمان أمنية يريدها الاحتلال، وأن لا وقف إطلاق نار إلا بعد تحقيق هدف القضاء على المقاومة. وعندما بدأ يتأكد من استحالة تحقيق الهدف ربط وقف إطلاق النار بهدنة تبادل أسرى لا يلتزم بإنهاء الحرب فيها، مخترعاً نظرية اليوم التالي لنهاية الحرب، ومحورها إيجاد حكم بديل لحماس في غزة. وعلى جبهة لبنان كانت مواقف الاحتلال مشابهة، وجوهرها في البداية كان أن لا انسحاب إلا بضمان نزع سلاح المقاومة، والاحتفاظ بشريط أمنيّ يقرّره الاحتلال، وحرية الحركة البرية في جنوب لبنان والاحتفاظ بالسيطرة الجويّة على لبنان. ثم مع تعمّق فشل قواته البرية في تحقيق أي اختراق جدّي في الأراضي اللبنانية، خفّض سقفه، لكن الى حدّ بقي خلاله يقول بالتفاوض تحت النار، واستبدل نزع سلاح المقاومة بانسحابها إلى ما وراء الليطاني باعتباره بنداً من بنود القرار 1701.
– تكبّدت المقاومة في لبنان وغزة خسائر فادحة ودفعت تضحيات غالية، بما يُوحي بأنّها الطرف الخاسر في الحرب، لكن المتابعة الأشدّ دقة لمسار الحرب توصل إلى أن وقف إطلاق النار في الجبهتين، جاء بعدما عجز الاحتلال عن فرض شروطه، فقبل بما لم يكن مقبولاً في بداية الحربين، وكان المشترك بينهما، موافقة الاحتلال إلى سحب حلم نزع سلاح المقاومة والقضاء عليها من التداول. وهذا يعني القبول بالعودة إلى التساكن مع مقاومات مسلّحة على الحدود الشمالية والجنوبية، وهو ما سبق واعتبره تهديداً وجودياً للكيان، ثم التزم بالتوقيع على اتفاقات تتضمّن نصوصاً صريحة تلزمه بالانسحاب الشامل من غزة وجنوب لبنان، والتخلّي عن نظريات الحزام الأمني والمنطقة العازلة، وهذه هزيمة استراتيجية كبرى ضاع وهجها بحجم الدمار في غزة ولبنان وشلال الدماء النازفة فيهما.
– ما جرى هذين اليومين كان من جهة متزامناً مع نجاح المقاومة في لبنان وغزة باحتواء خسائرها والتقاط أنفاسها، ما أتاح لها إضافة إلى القراءة الهادئة لموازين القوى، خصوصاً بعد وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وحدود تأثير ذلك على هذه الموازين. ومن جهة مقابلة القدرة على اتباع طرق الحرب الناعمة التي لا تطيح الاتفاقات، ولكن التي تفرض نفسها على مسارات التنفيذ. وهنا جاء الحدثان الكبيرانِ، الحملة الشعبيّة للعودة الاستشهاديّة لسكان القرى المحتلة في جنوب لبنان والتي نزفت دماء شهداء وجرحى، وكانت مارون الراس برمزيّتها عنواناً لها، ومثلها الزحف البشريّ العظيم من جنوب قطاع غزة إلى شماله. وفي الحالتين إسقاط لحلم المنطقة العازلة واقعياً عبر التهجير، ما لم يتح حصوله باقتطاع عسكريّ بقوة الحرب، سواء في قرى الحافة الأمامية جنوب لبنان أو في شمال غزة.
– فجأة انهارت صورة النصر التي حاول الاحتلال تسويقها، وفجأة ظهرت الجراحات العميقة التي أصابت الجيش والمستوطنين، وظهرت أهميّة التفوّق المعنوي لجمهور المقاومة على الجبهة الداخليّة للكيان، فسار مئات آلاف الفلسطينيين ساعات طوال على أقدامهم وهم جياع ومرضى ينشدون الوصول إلى بيوتهم المدمّرة وهم يعلمون أنها غير صالحة للسكن، بينما اقتحم آلاف الرجال والنساء والأطفال القرى الحدوديّة التي يتمركز فيها الاحتلال في جنوب لبنان. وأثبت الحدثان سقوط نظرية مناطق غير صالحة للسكن تبقى مهجورة وتتيح للاحتلال اعتبارها حزاماً أمنياً غير معلن. ووصل مئات الآلاف الى شمال غزة، ودخل أهالي عشرات قرى الجنوب الحدودية إلى قراهم وبلداتهم، فسقطت صورة النصر المخادع.
– دموع جنود الاحتلال وهم يغادرون مواقعهم في نتساريم تختصر حال الفشل الإسرائيلي والشعور بالهزيمة، مثلها مثل رفض مستوطني شمال فلسطين العودة إلى المستوطنات، بينما تفسّر ظاهرة الحضور العسكريّ والإداريّ المنظم لحركة حماس في غزة الشعور بالنصر، مثلها مثل تدفق الحضور الشعبيّ المنظّم لجمهور المقاومة وإعلان رفض أي تمديد لمهلة انسحاب قوات الاحتلال، لم يعُد من مجال للنقاش حول يد مَن هي العليا في نهاية هذه الحرب الضارية.