“لن نكون في الملعب!!..”، هذا ما صرح به عشرة لاعبين من المنتخب الوطني الفرنسي، حول المشاركة في اللقاء الكروي الذي يضم الفريقين الصهيوني والفرنسي الخميس 14 نوفمبر2024. في مقدمة اللاعبين الرافضين، اللاعب الدولي الشهير كيليان مبابي وفرلاند ماندي ونبيل فكير وفلوريان توفان وأوليفيه جيرو وحاتم بن عرفة وسامويل أومتيتي وألسكندر لاكازات وكريم بنزيما وأنطوان غريزمان، هم خيرة الفريق الفرنسي ونخبة نخبته.


استجاب اللاعبون لمناشدة نخب فرنسية ونواب، طالبوا في فيديوهات مسجلة بعدم التورط في مباراة الإبادة كما سموها، والامتناع عن النزول إلى أرض ملعبٍ يحكمه الكيان؟.. فمنذ أن اتُّخِذ قرار إجراء المقابلة، لم تتوقف رسائلهم عبر وسائل التواصل أو في البرلمان، وتوجَّهت مباشرة وبالأسماء إلى اللاعبين معتبرين أن المشاركة في المقابلة هي مشاركة في جريمة الحرب المتواصلة في فلسطين ولبنان، وفضيحة ترتكبها الحكومة الفرنسية ستخلف لا محال عارًا لن يُنسى.


أما الخطاب الأشدُّ في هذا السياق فكان للنائب دافيد جيرو، وكان موجَّهاً مباشرةً للرئيس ماكرون، حيث عبَّر خلال جلسة برلمانية عن غضبه وامتعاضه من سياسات الرئيس الفرنسي، وقال: “بين الدعم المطلق واللامشروط لقوى الأمن الفرنسي والدعم المطلق واللامشروط لدولة الكيان، قد خَيَّرْتم وأنتم رئيسٌ للدولة الفرنسية الوقوف إلى جانب دولة الكيان. عاهدناكم سريع الرد، وشاهدنا صمتكم المريع حين اعتدى أمن الكيان على قوى أمننا الحاملة للصفة الديبلوماسية في فلسطين المحتلة. تَتَحَدثون عن الوطنية وتتركون الكيان يدوس بالأرجل سيادة فرنسا، فمن أُهين هي فرنسا، كل فرنسا التي شاهدت رجال أمنها منبطحين على الأرض بأوامر الصهاينة ، تتشدقون بالدفاع عن مسيحيي المشرق وتبيحون بصمتكم المخزي العدوان على الدير والكنائس وأماكن العبادة، ولم نسمع صوتكم إلا حين رُفِعَت لافتة التضامن مع فلسطين خلال مباراة رياضية. دون كيشوت حارب طواحين الهواء، أما وزير داخليتكم فاكتفى بمحاربة تيفو لفريق باريس سان جارمان الداعم لفلسطين”، ويضيف: “نفاق تصريحاتكم الرافضة للسياسة في الملاعب الرياضية، هي في الحقيقة رفض لفلسطين فحين يتعلق الأمر بغزة تصبح الرسالة الرياضية رسالة كراهية، وتجرِّمون أي حركة داعمة أو متعاطفة مع فلسطين إلى حد أن اللجنة الدولية لحقوق الانسان في الأمم المتحدة أقرَّت بأنكم تنحرفون بوسائل مكافحة الإرهاب وتسلِّطونها على النشطاء والنخب الحرة، أنتم يا ماكرون وأنت يا ميشال بارنيي (رئيس الحكومة في فرنسا)، متواطئان مع الإبادة في غزة، فلا تنسوا يوم الخميس حين تصفقون لفريق كيان الإبادة والتقتيل، أن في غزة لا يوجد ملاعب لكرة القدم رغم أن فريق الكيان يطلق نيرانه  من كل حدب وصوب على صدور الأطفال، ولا تنسوا أن في فلسطين ولبنان الضربات تسقط قنابل من السماء لقتل الأبرياء”.
وفي جهة أخرى نظَّم نخبٌ وناشطون فرنسيون، تحركاً احتجاجياً أمام محطة قطارات سان لازار، وذلك يوم الأربعاء 13 نوفمبر 2024، للاحتجاج على تنظيم حفل تضامن مع الكيان بحضور سموتريتش، وعلَّق الناشطون قائلين: إن هذا الحفل هو حفلٌ لتمجيد الإبادة في غزة والإشادة بتقتيل الشعب الفلسطيني، وإنه من العار على فرنسا قبول سموتريتش الذي يعمَد إلى تجويع مليوني فلسطيني في غزة، ويهدد بضم الضفة إلى الأرض المحتلة، فبينما يقاوم الشعب الفلسطيني من أجل البقاء ويُحْرَم من الغذاء والماء والكهرباء والمستشفيات على يد هذا المجرم، يتوجب علينا الوقوف كشعب ضد هذا الإجرام في بلادنا، ولن نقبل بهذا الحفل ولا بسموترتش، وسنتصدى لهذا الانحراف المروع في السلطة في بلادنا”.. ليل باريس لا ينام ونهارها لم يعرف الهدوء منذ أيام وأكثر، ففي الدائرة الثامنة لباريس أرقى الأحياء الباريسية،  عشرات الآلاف نزلوا إلى الشارع، رافعين لافتات التضامن والدعم لفلسطين ولبنان، بينما تطوِّق حكومة بارنيي كل حركة لإخمادها، وعبثاً تحاول، فغضب الفرنسيين من عدم الاكتراث لمطالبهم واحتجاجهم يزداد يوماً بعد يوم، والقناعة بتورط ماكرون في الدم الفلسطيني واللبناني تترسخ في ذهن الفرنسيين مجزرةً بعد أخرى.
 “مباريات العار”، هكذا وصف سائقو الشاحنات مبارياتِ فريق ماكابي والفريق الفرنسي، وعبّروا بفيديوهات عن رفضهم لتنظيمها وطالبوا بعدم مشاهدتها وبمقاطعة التلفزيونات التي تبثها. حتى أن الصحفي مارك أنطوان، علق في راديو RTL قائلاً: “نحن نعرف مسبقا ما سوف يحدث فوق الميدان ونعرف جيدا تكتيكات (إسرائيل)، ستحتل الملعب وتنفذ الكثير من الطلقات العشوائية على الجمهور”!!..

اضطرت السلطات الفرنسية لنقل حفل دعم الكيان إلى حديقة فانسان Parc de Vincennesفي ضاحية باريس، في محاولة للابتعاد عن حركة الاحتجاج وخوفاً من غضب الشارع، وألغى وزير الإرهاب سموتريتش حضوره خوفاً من التتبع القضائي والإجراءات القانونية المحتملة والمطالبة باعتقاله، خاصة بعد إعلان الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان والمنظمات الأعضاء فيها بالتعاون مع مؤسسة الحق، ومركز الميزان والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ورابطة حقوق الإنسان، رفع دعوى قضائية جماعية ضد هذا الشخص الغير مرغوب فيه، في حال دخوله التراب الفرنسي.
وقد جاء في تصريح المنظمات الحقوقية المعنية بالدعوى القضائية أن “على القادة (الإسرائيليين) أن يدركوا أن وقت العدالة والمحاسبة قد حان، وأنهم لن يكونوا محصنين إلى الأبد من الإجراءات القانونية الهادفة لتسليط الضوء على مسؤولياتهم في الجرائم التي ترتكب ضد الفلسطينيين في غزة، إن العدالة ومكافحة إفلات مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتعذيب والاختفاء القسري تقتضي فتح تحقيقات قضائية حيثما أمكن ذلك».
واحتضنت ساحة الجمهورية ليلاً عشرات الآلاف من الفرنسيين احتجاجاً على سياسات فرنسا وتضامناً مع فلسطين ولبنان. كان بارزاً في هذا التجمع حضور رؤساء منظمات وطنية ونقابات ونواب شعب، وكتب المحتجون شعارات التضامن والدعم لفلسطين ولبنان على نصب القديس أوقيستان Saint Augustin وعَبَّر النواب في مداخلاتهم عن امتعاضهم مما يفعله ماكرون بفرنسا وأكدوا مواصلة النضال حتى لا تكون فلسطين ولبنان وحيدتين في مواجهة الآلة الحربية الإرهابية.
ورغم أن السلطات الفرنسية أطبقت على العاصمة بالانتشار الأمني لمحاصرة التحركات وإضعافها، إلا أن هتاف الساحات ملأَ الأرجاء، فبعد تجمع ساحة الجمهورية، نظم المحتجون تجمعاً آخر بعشرات الآلاف في سان ديني، Saint Denis ، المحاذية للحزام الأمني الحامي لمباراة الخميس 14 نوفمبر، وكالعادة حضر نواب فرنسيون ولم تختلف مداخلاتهم وخطبهم عن تلك التي سمعناها تحت قبة البرلمان بل كانت أقوى وأعنف ونادت بالحشد الشعبي لمقاومة حكومة ماكرون المتورطة في دماء غزة ولبنان والشريكة في الإبادة الجماعية وأكدوا على المحاسبة والوقوف اللامشروط مع الشعبين الفلسطيني واللبناني، ورفع المتظاهرون شعارات عديدة نذكر منها:
“Nous sommes tous les enfants de Gaza/Nous sommes tous les enfants de Beyrouth/ Résistance résistance c’est la voie de l’existence/ De Paris à Gaza résistance résistance / De paris à Beyrouth résistance résistance/Beyrouth Gaza Paris est avec toi/Free Free Palestine/Sionistes fascistes c’est vous les terroristes/George Abdallah tes camarades sont là.كلنا أطفال غزة، كلنا أطفال بيروت/مقاومة مقاومة، سبيل الحياة/ من باريس إلى غزة مقاومة مقاومة/ من باريس إلى بيروت مقاومة مقاومة/ بيروت غزة باريس معكم/ الحرية لفلسطين/صهاينة وفاشيين أنتم الإرهابيون/جورج عبد الله أصدقاؤك معك،
“ماكرون، هولند وساركوزي”، ثلاثة رؤساء تجندوا لحضور المباراة حماية للكيان، ما أثار أكثرَ غضب الفرنسيين  واعْتُبرت فضيحةً ماكرونية لا تُنسى من طرف بعض نواب الشعب. وقد حرصت السلطات الفرنسية على تجنيد أربعة آلاف عون أمن وألف وست مائة عون حراسة، ووضعت حول ملعب فرنسا حزاماً أمنياً بمسافة اثنين كيلومترٍ دائري، خوفاً من التصعيد في حركة الاحتجاج الرافضة للقاء واقتحامها للملعب، إضافة إلى أن المنظمين اتخذوا قراراً مسبقاً بإجراء المباراة بلا جمهور في حال وقوع تجاوز أو ظهور بوادر شغب وسط المدارج أو رفع شعارات معادية للكيان، ورغم كل ما بذلته وجهزته هذه السلطات لإنجاح هذه المباراة عالية الخطورة، إلا أن بيع التذاكر لم يصل إلى العشرين ألف تذكرة، مقابل طاقة استقبال بثمانين ألف متفرج، والمداخيل لم تتجاوز الخمسمائة ألف يورو، والحال أن المدخول العادي للملعب في كل مباراة هو بين ثلاثة وأربعة ملايين يورو، مما دفع مسؤولة إدارة الملعب للتعبير عن استيائها العميق للخسارة المالية الكبيرة والغير مسبوقة في تاريخ الملعب، خسارة تقدر بثلاثة مليارات من اليورو أو أكثر.
ميدان ملعب باريس حسم المواجهة بصفر على الجهتين، ولم يتفاجأ مدرب الفريق الفرنسي بالنتيجة مع تخلُّف عشرة من أفضل لاعبيه عن حديقة الأمراء ودخول المباراة بفريق أعرج ومدارج خالية وضغط شعبي مُشل وخسارة مادية ثقيلة. أما عن الجمهور ورغم كل ما بذلته السلطات الفرنسية لإخماد صوت فلسطين، الا أن علم فلسطين ارتفع عالياً مع شعار الحرية لفلسطين والتصفيق، وسط دهشة الجميع وأولهم الأمن وفريق الكيان، حتى أن بعض المتفرجين بكوا من شدة التأثر بحركة رفع العلم الفلسطيني وسط ميدان مرعب.

أقيمت المباراة وانتهت بخسارة كبرى على الجانبين، وأقيم الحفل في سرية مطلقة كحفل مصاصي الدماء، وهرب سموتريتش وانكفأ في ملجئه، ويبقى الشارع الفرنسي وأصواته التي تخترق جدران الجبن مشتعلاً على مدى اشتعال الحرب وتواصل العدوان، لن يهمد إلا يوم إعلان النصر المبين وإقامة عدالة السماء والأرض على أرض لبنان وفلسطين، أجل فلسطين ولبنان ليستا يتيمتين وباريس صارت حرة.
هند يحي – تونس