عام أو ما يقرب على انتفاضة فلسطين في جامعة كولومبيا وباقي جامعات أمريكا وأوروبا، حركة لازالت جذوتها لم تنطفئ. واليوم نشهد انتفاضة جديدة بأمستردام العاصمة، مغذات بالدم الفلسطيني النازف، دَمٌ هُدِر لدهر على مرئ ومسمع العالم وتحول اليوم الى جمر وشرارة تشتعل يوم بعد يوم في كل العواصم الغربية.
شهدت مدينة أمستردام على إثر مباريات فريق الماكابي الصهيوني وفريق أجاكس، ليلة طاحنة بالكر والفر والقتال في الشوارع، بعد أن عمد مشجعون صهاينة الى الاعتداء على العلم الفلسطيني ورفع شعارات تطالب بذبح العرب والقضاء عليهم، فما كان من الشباب المغاربة الا أن رد الفعل بما يستوجب الدفاع على أشرف راية في هذا العالم القاهر، ولقن درسا لا ينسى لشرذمة المشجعين الصهاينة مع اذلالهم واخضاعهم لرفع شعار الحرية لفلسطين.
كانت ليلة الغضب والقبض على الصهاينة من شارع الى ساح، والدفاع بشراسة عن راية فلسطين ثم تحولت الى مظاهرات وصدامات لم تهدئ الا مع الفجر، ربما كان المشهد الأبرز فيها ذلك الشاب الصهيوني الذي أُلْقِي في النهر وأُمِر بالهتاف لفلسطين وهو يتخبط في الماء كشرط لإخراجه من النهر. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل خرج في اليوم التالي الهولنديون من كل الأعمار يهللون ويعبرون عن فرحتهم بما حدث للهوليقانز الصهيوني في بلادهم رافعين شعار الحرية لفلسطين.


الناشطة الهولندية، مارتين هيجتويزر، تُعلق على الحدث فتقول: “ماذا تتوقع إذا أتيت الى شوارعنا وغنيت عن حرق غزة؟.. لقد شاهدنا شغب المتظاهرين الصهاينة ولكن في أمستردام الهوليقانز الصهاينة يستطيعون اثارة الشغب ويمكنهم حرق علم فلسطين والغناء عن حرق غزة وفي اللحظة التي ترد عليهم تظهر الشرطة الهولندية ويصبح الأمر فجأة في كل الاخبار مجرد مضايقة للمتظاهرين الصهاينة أو شيء ما متعلق بدينهم، بينما الحقيقة ببساطة هو أن الصدام معهم كان لأنهم جزء من الإبادة الجماعية، وبصفتي مواطنة هولندية ومن أمستردام فاليكن معلوم أنه على الرغم من أن سلطاتنا ووسائل اعلامنا وسياسيينا يتبعون قواعد اللعبة الصهيونية فان الشعب الهولندي يقف الى جانب فلسطين”..
وفي مكان آخر من أوروبا، وتحديدا العاصمة باريس التي لم تهدئ شوارعها منذ أسابيع بالمظاهرات المساندة لفلسطين ولبنان، وبعد عرض “تيفو” نادي باريس سان جارمان، المعبر عن التضامن مع فلسطين رافعا عاليا شعار “الحرية لفلسطين”، ما جعل رئيس “الكريف”، (المنظمة الصهيونية) في فرنسا يحتج بشدة على إدارة الفريق ويصف رسم التيفو كفعل يلغي الكيان من الوجود، اذ رسم مشجعي فريق باريس سان جرمان (علم فلسطين ملطخا بالدم مع عبارة الحرية لفلسطين وطفل يرتدي العلم اللبناني ويُوشِح بوجهه عن العالم ومقاوم ملثما بالكوفية)، قال عنه رئيس الكريف، “لقد وضعوا أبو عبيدة في التيفو”…
بينما تُواصل النائبة بالبرلمان الفرنسي وزعيمة فرنسا الأبية “ماتيلد بانو”، معركتها ضد سيطرة أذرع الصهيونية في بلادها على دوائر القرار السياسي والاعلام، وتشيد بحركة فريق باريس سان جارمان معلنة أن الرياضة صارت ملعبا للسياسة أيضا ولمعارك الشرف، وتطالب بمواصلة الحراك المتضامن مع فلسطين والتصدي لتنظيم حفل داعم للكيان من طرف محامي يهودي فرنسي، بحضور سموتريتش، وتفضح هذا المحامي الذي تقول أنه وقف في المعابر لمنع تمرير المساعدات الى غزة، واعتبرت ان هذا الحفل وهو حفل للإبادة الجماعية في فلسطين يقام على ارض فرنسا “الاعلان العالمي لحقوق الانسان”، وأنه سيجمع المساعدات لتمويل مزيدا من القتل والتدمير والتجويع في فلسطين ولبنان وأن الحكومة الفرنسية التي ترفض زيارة المثقفين والمناضلين الشرفاء تستقبل مجرم الحرب سموتريتس ودعت النائبة المحترمة الفرنسيين للتصدي لمنظمي هذا الحفل.

وتحت عنوان “تحي كرة القدم حرة”، نظم نخب وناشطين فرنسيين داعمين لفلسطين ولبنان تظاهرة كبيرة وسط باريس، ورَفع المتظاهرون لافتات تندد بالإبادة الجماعية في غزة وبإجرام الكيان الصهيوني والصمت الدولي ازائه، وطالب المتدخلون بمقاطعة اللقاء الذي يجمع فريق الكيان بالفريق الفرنسي على أرض فرنسا، واعتبروا أن هذا اجرام في حق الفلسطينيين وأن الحكومة الفرنسية أجحفت في التواطئي الفاضح مع الكيان المجرم، وجاء في تصريح أحدى المتدخلات: “هذه المباريات التي تجمع بين الكيان وفرنسا في ملعب فرنسا يوم 14 نوفمبر، هو دفع لفريقنا الفرنسي باللعب مع فريق من القتلة وسَفَّاكي الدماء، فنحن لا نقبل باللعب مع فريق كيان الإبادة ولا نقبل بأشخاص يأتون لنا بزي رياضي وحالما يتحولون الى بلادهم يرتدون بزة إبادة الشعب الفلسطيني، ويريدون منا قبول أن يرفع نشيد كيان الإبادة على أرضنا، والحكومة الفرنسية تريد تطويق المنطقة بثلاث ملايين شرطي، علما بأننا متأكدون من أن الكيان ذاته سيحمي هذه المباريات ونحن نقول لهم أن ما يمثل تهديد لأمننا هي هذه المباريات، وهي اعتداء على كرامتنا وحكومتنا المتواطئة مسؤولة على هذا الاعتداء علينا”. ومن بين المقاطعات الشهيرة التي أعلنت على منصات فرنسية، مقاطعة اللاعب الشهير “كيليان مبابي” وهو من أب كامروني وأم جزائرية، لهذه المباريات، إن أول الغيث قطر، وهذا الطوفان لن يبقي على أرض دون أن يغزوها.
ويُعتبر جمهور فريق سالتيك الأسكتلندي أكبر جمهور كروي في كامل أوروبا، وفي مقابلة جمعت فريقه مع نادي دورتموند الألماني في ملعب Signal Iduna Park الشهير، ومع بدء المباريات وقف جمهور سلتيك رافعا علم فلسطين ولبنان ثم اصطف مشجعيه في مقدمة المدارج وهم يرتدون بلوفرات رسم عليها شعار “فلسطين حرة” وسط هتاف الجماهير في الملعب.


في برلين مجموعات من الشباب الألماني يتوشحون بالكوفية الفلسطينية ويتجولون في ميترو العاصمة رافعين شعار الحرية لفلسطين، ولم يثني تدخل الأمن الألماني هؤلاء الشباب عن حركتهم ولم يخيفهم تهديد الأمن بل يواصلون التجول في الشوارع بكوفية العز والاباء ويصرخون بأعلى حناجرهم، شعارات متضامنة مع فلسطين محاصرين المشجعين الصهاينة، بل وصل بهم الأمر الى وضع ملصقات العلم الفلسطيني على سترات رجال الأمن الألماني. في الأثناء تعيش الحكومات الأوروبية رعب تنظيم روزنامة المقابلات الكروية الكبيرة في عواصمها ومدنها ونتائج هذا على الحراك في الشارع الأوروبي، لأنها تعرف أن فلسطين صارت الحاضر الأهم والقوي في كل موعد كروي وأنها لن تستطيع اسقاط حقها في الوجود بقوة في ملاعبها وشوارعها.


كل هذا الاكتساح للحق الفلسطيني والمظلومية الفلسطينية لأوروبا الشعوب وهذه المشاهد التي تنتشر في عواصمها ومدنها لأكثر من عام والتي نراها اليوم تأخذ علمات متنوعة ومتميزة وتتطور في شكل تضامنها واحتجاجها وتتوسع وتمتد للملاعب ومساحات واسعة من الفضاء العام الأوروبي، وتجتاح كل شرائح شعوب أوروبا ينبئ بتغيير كبير في القادم. وهذا الحراك الأوروبي الذي لم يهدئ والذي تجذر أكثر في وعي المواطن الأوروبي وتحول الى حركة منظمة ومتواترة ومتتابعة، أصبح يشكل نوعا من الخطر على الصهاينة في العالم، إذ تحولوا واقعا الى أشخاص مرفوضين ومنبوذين ويحملون وصم العار والقتل والعدوان والابادة والبربرية وذنب الدم الفلسطيني.
كيف يمكن لهذا التحول في الشارع الأوروبي وفي مستوى النخب الأوروبية الشريفة والمؤمنة بقيم الحرية والكرامة والانسان، وكل هذا التراكم في الفعل الرافض للصهيونية في الشارع الغربي أن يخدم قضية فلسطين وماذا يمكن أن يضيف لشعبها الذي يعاني ما لم يعانيه شعب على وجه البسيطة؟.. ولنا أن نسأل كيف يمكن للنخب العربية التي تجذرت في الفضاء الأوروبي أن تستغل هذا التحول العظيم الكيفي والكمي لصالح القضية وأن تستثمر فيما بذله الدم وأنجزه في وعي المواطن الغربي لتجعل من فلسطين الرقم الصعب الذي لا بد أن يدخل في حسابات حكومات الغرب غصبا لا خيارا.


ننتظر تَجَلِّي نتائج وثمار هذا التحول في المدى القصير والمتوسط، إذ لم يعد للوقت بعد هذا الكم من الدم والحجم من العذابات معنًى ولا قيمة، بل الشيء الوحيد الذي يحمل كل المعاني وكنه الكينونة الفلسطينية هو وصية الشهيد والثبات في أرض مقدسة سقيت بدمائه.
هند يحي- تونس