على ضفاف نهر الفولجا، اجتمع قَادةُ مِحْوَرٍ يُمَثِّلُ قُرَابة 45% من سكان العالم، وثُلث الناتج المحلي الإجمالي و43% من إنتاج النفط ونصف إنتاج الخام لهذا العالم. كان بمثابة إعْلانٍ للاستقلال النسبي عن المنظومة الغربية المتوحشة والمتهاوية، وكانت الشراكة المستدامة من أجل العيش المشترك والسلمي على رأس أولويات لقاء 35 دولة تحت غطاء مجموعة البريكس.


و المثيرُ للاهتمام  أن عنصر القوة في منهجية البريكس يكمن في تمسُك قادته بانتمائهم الثابت للمؤسسات التقليدية التي تدير العالم منذ 1945، من منظمات ومجالس وصناديق، والأمم المتحدة أولها. بل فَضَّلَ تصنيف منظومته الجديدة مُكَمِّلاً وموازياً لهذا النظام الذي جثم على صدر البشرية لعقود وليس بديلاً عنه. لم يعلن التناقض ولا العِداء وطرح خطة إصلاحية لما فسد في المؤسسات الواقعة تحت سيطرة الغرب المتأمرك. وفي هذا الخيار الرصين إدراك عميق بأن لكل خطوة ألف حساب ولكل مرحلة شروطها ومقتضياتها ومتطلباتها، وأن البدايات جامعة للكل والطريق يتكفَّل بالفرز وتثبيت الأقوى في المراتب العليا ومواقع القرار والحسم.
وعلى الرغم من أن المنظومة العالمية التقليدية أنهكت الصين وروسيا وغيرها من البلدان، عبر سياسة العقوبات المجحفة وتأثيرها السلبي على الاقتصاد بما فيه من كارثية على الاقتصاد العالمي والتجارة العالمية، إلا أنهم اختاروا التعاون لا المواجهة ولكن بشروطهم لا بما فرضته هذه المنظومة على باقي دول العالم، سواء كان الأمر متعلقاً بالمؤسسات المالية أو النقدية أو التجارية أو السياسية الجامعة. كان تحييداً غاية في الدهاء لأي ردة فعل غير محسوبة من الدولة العميقة للغرب المتأمرك.
أعلن البريكس عن نفسه كتجمع غير رسمي دون هيكل إداري منظِّم بل هو مجموعة إرادات تَوَحَّدَت وتضامنت من أجل أهداف مشتركة، وتَشَكُّلٍ عَمَلِي لنظام سياسي واقتصادي جديد يُجَمِّع الاقتصادات المنهكة مثل روسيا ما بعد الحرب الباردة والصين، والاقتصادات الناشئة مثل الهند والبرازيل، وقد نجحت  كلتاهما في الخروج من التخلف بفضل إنشاء قطاعات اقتصادية تعتمد على الطفرة التكنولوجية للتسعينات والتقنيات المستحدثة واستفادتا من الثورة المعلوماتية بامتياز، ثم جنوب أفريقيا الدولة المتقدمة تكنولوجياً.
ليس للبريكس في هذه المرحلة مجلس أمن، ولا يملك الهياكل الموجودة في حلف شمال الأطلسي، بل كل ما لديه هو تفاهمات رسمية بين مجموعة الدول المؤسسة حول مسائل استراتيجية جوهرية تخصُّ التبادل التجاري بينهم وبين الدول الشريكة التي التحقت الآن أو التي في طريقها لذلك، وكان هذا بمثابة خطوة ثابتة وجريئة نحو تحرير التجارة العالمية من سطوة مؤسسات الغرب وفك العزلة على ما يُطْلَق عليه الآن “الجنوب المتكامل” Global South.
من المؤكد أن للمؤتمر السادس عشر للبريكس الفضل في وضع أحجار أساسية جديدة في صرحه، ولكن مرحلة ما بعد هذا اللقاء الذي حظيَ باهتمامٍ كبيرٍ من الغرب، تتطلب وضع هياكل إدارية ترعى قطاع التجارة بين هذه البلدان، فلدى الصين والهند أنشطة تجارية عملاقة وطلبات وعروض كبيرة، ولضمان نجاح خيارات البريكس في هذا المستوى وجب ضرورة وضع آليات تُنَظِّم هذا القطاع خارج المنظومة العالمية المتأمركة.
عملت روسيا بجهد كبير خلال الفترة الماضية لفرض النظام الجديد والموازي للأنظمة الموجودة، ومن أهم مخرجات “كازان”، إحداث بورصة المعادن الثمينة Brics Golden Change، وبورصة الحبوب Brics Grains Change ، وجسر البريكس Brics   Bridge وهو نظام ومنصة دفع رقمية لتسهيل الدفع بين الدول، و Brics Clear وهي  آلية مقاصة بين البنوك تسهل المدفوعات بين البلدان، ثم Brics Pay، وهو نظام بطاقات ائتمان خاص بالبريكس يحل محل بطاقات الماستر كارد أو بطاقة فيزا Master Card & Visa في البلدان المعنية بنظام بريكس للتبادل التجاري. ومن هنا نرى أن أهم مبادرات البريكس تسعى إلى تيسير التبادل التجاري والتعامل المالي والمدفوعات واستبدال أنظمة الدفع الحالية التي يحكمها نظام العقوبات والتقييد بأنظمة أكثر إنصافاً وعدلاً وحريةً، وهذا إعلانٌ واضحٌ للغرب بأنه لن يفعل ما يشاء في المستقبل، لأن البدائل والحلول تحولت إلى فعل وبرنامج عملي وأن قسم كبير من العالم يتبناه ويحتمي به ضد عسكرة المؤسسات التقليدية التي هيمنت لعقود وطوّعها حلف شمال الأطلسي واستخدمها ضد خصومه. إذ وضع البريكس أسساً جديدةً للتبادل التجاري الحر البديل عن الدولار وبورصة بديلة لبورصة الحبوب، وبديلاً لنظام الاستخلاص والدفع، وبديلاً لنظام التأمين، وبديلاً لنظام الاتصال بين البنوك، وأسواقاً موازية للأسواق التقليدية الغربية.

إضافة إلى كل هذا وخلافاً لسياسات الترهيب المعتادة للغرب المتأمرك، ترك نظام بريكس، الخيار الحر للدول المرتبطة بالمنظومة الغربية في إدارة سياساتهم ومنحهم مع ذلك مجالاً وأدواتٍ لحماية مصالحهم والتخلص من القيود الغربية. قطعاً سيكون لهذا التمشي النبيه تداعيات كبيرة في السنوات القادمة، خاصة بعد أن مُنِحَت لهذه الدول فرص التفاوض فيما بينها دون الارتباط بالدولار، وهذه أكبر خطوة في التاريخ الحديث في مستوى العلاقات التجارية والتبادل بين الدول  والتخلص من سطوة النظام المالي الحالي.
لم يغلق البريكس الباب أمام البلدان الراغبة في الانضمام ولم يقبل العضوية الرسمية أيضاً، وذلك لأسباب عملية أكثر من كونها سياسية، لأن إدارة البريكس تتعامل بكثير من النضج والبصيرة مع واقع منظومتها وواقع العالم ومع خططها، فهي لا تختار التوسع قبل أن تُقَوي نواتها المُؤسسة أولاً، ودون إحداث هياكل إدارية رسمية قادرة على استيعاب العدد الأكبر من البلدان، بل إنها تعي جيداً أن مسار إنشاء هذه الهياكل يتكيف ضرورةً مع نسق الانضمام، وأن عدد البلدان سوف يُحَدِد حجم الهياكل وإمكاناتها وهيكليتها، ومع ذلك فإنها عمدت إلى وضع البلدان الطالبة للانضمام على القائمة الرسمية للشراكة والتعاون، بحسب تصنيف يمرّ من عضوية رسمية، إلى عضوية غير رسمية ثم شراكة فعلاقات تعاونية، ومشاريع كبرى مشتركة.

وخلافاً لمنطق حلف شمال الأطلسي فإن البريكس يطرح نفسه كمنصة تعاون وتفاهمات أولاً، ويرى أن الأمن والسلم والاستقرار لبلدان العالم يأتي عبر التعاون والتشاور والتفاهم لا عبر العقوبات، وأن حل النزاعات يمر أساساً بفنون الحوار والنقاش والأبواب المفتوحة وليس بقرارات الإقصاء والإكراه والمواجهات العسكرية، وهذا ما ميز خطاب قادة البريكس عن قادة الغرب، فهو يقدم الحلول المتكاملة ولا يطرح المشكلات والأزمات دون رؤيا لحلها.
ويُحْسب للديبلوماسية الروسية نجاحها الباهر في جمع كل من مصر، المملكة العربية السعودية، إيران، الإمارات العربية المتحدة، أثيوبيا، أرمينيا، أذربيجان، كازاكستان، بيلاروسيا، كونغو، كوبا، أندونيسيا، فلسطين، لاوس، ماليزيا، نيكارغوا، تركيا، طاجكستان، أوزباكستان، فينزويلا، فيتنام، وبهذا التوزع الجغرافي والطاقي والتنوع الثقافي وهذا الشمل نستشف كيف أن روسيا حرصت على أن تكون قمة كازان شاهدة على ميلاد نتوءات العالم متعدد الأقطاب ومحطة تُثَبِّت حتمية المواجهة بين البريكس وال جي7 وفي أفق قريب.
إن من أهم النقاط التي دُوِّنَت في الإعلان النهائي لقمة كازان هي دعم الشراكة الثنائية والمتعددة، التي تتجاوز إطار الخمس أعضاء المؤسسين، وهذا يُظْهر المدى الواسع والمفتوح للمشروع وحجم أهدافه، إن هذه النقطة بالذات تفتح مجالاً  واسعاً للدول التي تريد الانضمام الرسمي إلى بناء علاقات وشراكات جديدة، وتعطيها فسحةً للتأقلم مع هذا النظام وزمناً  للدُرْبة، لتذليل التناقضات وحل العقد الراسبة في مستوى العلاقات الثنائية أو المتعددة، ما يزيد من فرص الانضمام الرسمي، والانخراط في المشروع بشكل كامل ويرسم معالم “الجنوبِ المتكامل”، أملِ وخلاصِ شعوب العالم.

ولذلك كان الإعلان النهائي أكثر تركيزاً على الشراكات الاستراتيجية والتعاون الشامل ومواجهة نظام العقوبات الظالم والمجحف في حق شعوب المنطقة، كما أنه دعا إلى التقارب بين البلدان النامية والأقل نمواً وخاصة في افريقيا.
لم يغفل الإعلان النهائي عن دعوة (إسرائيل) للوقف الفوري للعدوان على قطاع غزة ولبنان، ووجوب التوصل لحل سلمي من خلال الحوار لإيقاف الحرب بين روسيا و أوكرانيا، ووقف إطلاق النار في السودان والعمل على الحد من تفاقم الأزمة الإنسانية، كما أنه أكد على الالتزام بالتعددية والحفاظ على الدور المركزي للأمم المتحدة في النظام الدولي ودعم عملية الإصلاح الشامل لها ولمجلس الأمن واشترط  تنوع  تمثيليته، فدوره هو صون ​​السلام والأمن الدوليين قبل كل شيء، كما أكد قادة البريكس في إعلانهم على ضرورة إصلاح منظمة التجارة العالمية، وعن حاجة الشعوب الملحة لتمثيل جغرافي عادل وشامل ضمن فرق الأمانة العامة للأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. مؤكداً على تنفيذ استراتيجية الشراكة الاقتصادية 2025 على كافة الجبهات، مُرَحٍِِّباً باستخدام العملات الوطنية في المعاملات المالية المستقبلية بين الدول الأعضاء وشركائهم التجاريين.
إعلان قمة كازان كان أيضاً إعلان قيم الاحترام المتبادل والتفاهم والمساواة في السيادة والتضامن والديمقراطية والانفتاح والتعاون والتوافق في المستوى السياسي والأمني والاقتصادي والتمويلي، والعلاقات الثقافية والإنسانية وتعزيز الشراكات الاستراتيجية لصالح الشعوب والدفاع عن السلام والتعددية والتنمية المستدامة والنمو المتكامل، كان بيان العالم متعدد الأقطاب كما تصبو له شعوب الجنوب، عالماً أكثر عدلاً وتوازناً يحترم ويحفظ حقوق الإنسان وحق الاختلاف ولا يستخدمها لغايات خبيثة في خدمة مصالح قوى الاستكباروالطغيان.


وأكد هذا “الإعلان الحدث”، عن التزام قادة البريكس وشركائه باحترام أهداف ومبادئ وأحكام اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وبروتوكول كيوتو، واتفاق باريس، على قاعدة الإنصاف والمسؤوليات المشتركة والمتباينة وحسب المعايير الدولية العادلة. وأدان في المقابل التدابير الأحادية المتخذة بحجة مكافحة تغير المناخ وحماية البيئة، ودعا الى إقامة شراكات قوية ووضع سياسات متكاملة لمواجهة التصحر وفساد الأراضي والتربة والجفاف والى التعبئة المالية العادلة من أجل تنفيذ برامج الإنقاذ.
نشهد اليوم، عالماً  ينكشف بتُؤَدَة وآخر يتلاشى ويتهاوى بتَعَسُّر، هذه كازان وذاك الطوفان وبين هذا وتلك تتطلع شعوب العالم وتتشبث بأمل الخلاص على يدي جنرالات معركة حامية الوطيس ومتعددة الأوجه والأدوات والجغرافيا.
هند يحي_تونس