ثمّة لحظات في تاريخ الدول تصبح فيها الكلمات أخطر من الرصاص. لحظات تكشف فيها التصريحات السياسية عن مشاريع تتجاوز حدود «الرأي الشخصي» إلى التخطيط الفعلي لتغييرات كبرى في الجغرافيا والهوية والسيادة.
في لبنان، نجد أنفسنا اليوم أمام واحدة من هذه اللحظات. فتصريحات توم برّاك، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب، حول ضمّ لبنان إلى «إمارة الجولاني» في سوريا، لم تعد مادة للدهشة أو الاستغراب، بل مؤشّراً إلى مشروع سياسي – استراتيجي يقتضي مواجهة فعلية، لا الاكتفاء بإدانات شكلية أو صمت مُريب.
حين صدرت تصريحات برّاك للمرة الأولى، كان يمكن التعامل معها بوصفها انفعالاً أو سقطة في التعبير.
السياسيون الأميركيون كثيراً ما يختبرون ردود الفعل عبر تسريبات وتصريحات مبهمة، وهذا مفهوم ضمن لعبة السياسة.
لكن حين تكررت التصريحات مرة ثانية وثالثة، وبالروح نفسها، لم يعد ممكناً اعتبارها رأياً شخصياً. فالتكرار في السياسة ليس مصادفة، بل رسالة.
وعندما تأتي الرسالة من مبعوث لرئيسٍ مثل دونالد ترامب، الذي أعاد رسم خرائط المنطقة ثلاث مرات خلال ولايته، يصبح التمرير في غاية الخطورة.
ترامب ليس رئيساً تقليدياً، ولا يدير السياسة الخارجية كإدارة كلاسيكية للدولة. هو رجل صفقات، ينظر إلى الجغرافيا على أنها ملكية قابلة للبيع والشراء.
ومن يبدّل حدود الجولان بقرار، ويعترف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي خلافاً لكل منظومة القانون الدولي، ويقترح ضمّ أراضٍ من غزة ولبنان إلى الولايات المتحدة كما يضمّ شركة جديدة إلى محفظته الاستثمارية، ليس غريباً أن يختبر سيناريوات مشابهة في الساحة اللبنانية.
وبالتالي، اعتبار كلام برّاك «هفوة» يعني تجاهل السياق الذي يصدر فيه، والسياق هنا أهم من التصريح نفسه. لأننا أمام إدارة أثبتت أنها قادرة على تحويل الكلمات إلى خرائط، والوعود إلى قرارات تنفيذية، والآراء الشخصية إلى سياسات دولية نافذة.
ما يجعل الكلام عن ضمّ لبنان، ولو رمزياً أو على مستوى الطرح، خطيراً إلى هذا الحد، هو أنه يأتي من طرف يمتلك سجلاً فعلياً في تغيير الحدود.
فترامب لم يكتفِ بإعلان مواقف سياسية؛ بل غيّر واقعاً تاريخياً راسخاً منذ عام 1967 حين أعلن اعترافه بسيادة إسرائيل على الجولان.
هذا القرار لم يكن رسالةً سياسيةً فقط، بل كسراً لواحدة من أهم قواعد النظام الدولي: عدم جواز اكتساب الأراضي بالقوة.
وفي لحظة مشابهة، تجاهل ترامب كل القرارات الدولية المتعلقة بالقدس، ونقل السفارة الأميركية إليها، مانحاً إسرائيل اعترافاً أميركياً بسيادتها على المدينة كاملة.
هذا التغيير لم يكن رمزياً ولا تجميلياً، بل أعاد رسم موقع القدس في الخريطة السياسية للشرق الأوسط.
وإذا كان رئيس بهذه الجرأة على القفز فوق القانون الدولي قادراً على اتخاذ قرارات بهذا الحجم، فليس من المنطقي – ولا من العقل – أن نتجاهل تصريحات مبعوثه، سواء تعلّقت بضم أراضٍ، أو إعادة ترسيم مناطق نفوذ، أو إعادة تعريف الكيانات السياسية في المنطقة.
حين يُقال إن مشروع ضمّ جنوب لبنان أو أجزاء منه يأتي في إطار «مشروع اقتصادي»، يتعيّن التوقف ملياً عند معنى هذه العبارة. فالاقتصاد هنا ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة لتغيير الملكية والسيادة.
الحديث عن نقل ملكية أراضٍ جنوبية إلى شركة عقارية أميركية ليس تفصيلاً تقنياً، بل محاولة سياسية مقنّعة لإعادة توزيع الأرض، تماماً كما حدث في مشاريع استيطانية حول العالم.
لم تعد تصريحات توم براك
عن ضم لبنان إلى سوريا مجرد هفوة، بل باتت تعبيراً عن استراتيجية يمكن توقعها مع فريق يقوده دونالد ترامب
حين تُنقل الأرض، تُنقل معها السيادة. الملكية ليست مجرد عقد قانوني؛ هي ترجمة عملية لحقّ سياسي. ومن يسيطر على الأرض في النهاية يسيطر على الأمن والحدود والثروات والسكان. ومن يشتري يعيد تشكيل الجغرافيا، ومن يبيع يتنازل عن جزء من حدوده الفعلية.
وهكذا، يصبح «المشروع الاقتصادي» تسمية لطيفة لعملية أعمق: إعادة رسم لبنان.
أخطر ما في المشهد ليس تصريحات برّاك، بل صمت السلطة اللبنانية. الصمت هنا ليس حياداً، ولا تبصّراً، ولا تفادياً للتصعيد. هو عامل تمكين. فحين يكون مصير بلد مهدّداً – ولو على مستوى الخطاب – تصبح واجبات السلطة واضحة: الرد، التوضيح، الاستدعاء الديبلوماسي، التحذير، وربما التوجّه إلى المؤسسات الدولية.
لكن ما نراه هو العكس تماماً: لا موقف رسمياً، لا طلب إيضاحات، لا حملة مضادة، لا حتى محاولة لحماية الحدّ الأدنى من الهيبة الوطنية. الصمت، في هذه الحالة، لا يعكس ضعفاً فقط، بل يدلّ على أن بعض أركان السلطة قد يكون جزءاً من المشروع أو مستفيداً منه، أو على الأقل غير راغب في مواجهته.
والمفارقة أن هذا الصمت يُقدَّم أحياناً على أنه «واقعية سياسية»، بينما هو في الحقيقة أشبه بتخلٍّ مُسبق عن فكرة الدولة. فمن يرفض الدفاع عن حدود بلده عندما تكون مجرد كلمات مطروحة للنقاش، لن يكون قادراً على الدفاع عنها عندما تصبح وقائع على الأرض.
لبنان يعيش منذ سنوات لحظة اهتزاز غير مسبوقة. اقتصاده على حافة الانهيار، نسيجه الاجتماعي مهدّد، طبقته السياسية في حالة تفكك، ونظامه الدستوري في حالة تعطيل دائم. وفي لحظات كهذه، تصبح الدول هدفاً سهلاً للمشاريع الخارجية. فالخرائط لا تتغيّر فقط بالحروب؛ تتغيّر أيضاً بالانهيارات.
من هنا، يصبح الكلام عن ضمّ لبنان جزءاً من مشروع أكبر: إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يناسب مصالح الدول الكبرى وحلفائها. والمخيف أن كثيراً من هذه المشاريع يبدأ بتصريح، ثم بمقال، ثم باقتراح داخل مركز أبحاث، ثم بضغوط اقتصادية، ثم بنقاط تفاوض، قبل أن يظهر فجأة كأمر واقع.
وإذا كان لبنان غير قادر على حماية نفسه بالكلام، فكيف سيحمي نفسه حين تتحوّل التصريحات إلى خرائط؟ وهل يملك بديلاً من المبادرة السياسية؟ وهل يملك سلطة ترى أبعد من مصالحها الضيقة؟
لبنان لا يحتاج إلى صراخ، بل إلى موقف وطني واضح. يحتاج إلى سلطة تقول للمبعوث الأميركي: هذا الكلام مرفوض شكلاً ومضموناً، ومجرّد طرحه يشكّل تعدّياً على سيادة دولة مستقلة. يحتاج إلى مقاربة ديبلوماسية تعيد التذكير بأن لبنان ليس أرضاً سائبة تُناقش ملكيتها في غرف مغلقة.
كما يحتاج إلى رفض داخلي صريح لمشاريع تحويل الجنوب إلى منطقة عقارية تُباع وتُشترى. فالأرض هنا ليست ملكية فردية؛ هي هوية جماعية.
في مواجهة تصريحات بهذا الحجم، يصبح الصمت جريمة سياسية. ويصبح «حسن الظن» شكلاً من أشكال التواطؤ غير المباشر. أما اعتبار تصريحات كهذه مجرّد رأي، فهو إما قصر نظر أو رغبة في الهروب من مواجهة الحقيقة.
إن ما يهدّد لبنان اليوم ليس فقط مشاريع الخارج، بل تواطؤ الداخل، وصمت السلطة، وخوف النخب، وغياب الموقف. ولبنان الذي لم يهزمه الاحتلال، ولا الحرب الأهلية، ولا الحصار، قد ينهزم اليوم أمام كلمات إذا تُركت بلا ردّ.
البلد ليس ملكاً لسلطة تُقايض مصيره بمصالحها. لبنان باقٍ فقط إذا أراد أبناؤه له البقاء. أما إذا استمرّ الصمت، فإن أسوأ ما قد يحدث ليس ضمّ الجنوب أو تغيير الحدود، بل قبول اللبنانيين أنفسهم بأن يتحوّل بلدهم إلى ورقة تفاوض في صفقات الآخرين.
كريم حداد-الاخبار
