لم يكن فجر الثاني عشر من أكتوبر يومًا عاديًا في حياة عائلة شهاب؛ ففي لحظات قليلة انطفأت حياة أكثر من 45 فردًا من العائلة، معظمهم من الأطفال الذين كانوا يحملون أحلامًا وطموحات تتجاوز حدود الألم والواقع، وسط هذا الدمار، نجت إسلام شهاب و طفلها الصغير قاسم بأعجوبة ليكون الشاهد الوحيد على واحدة من أقسى المجازر التي عرفتها العائلة.
هربٌ من التهديد… إلى قلب المجزرة
مع اشتداد تهديدات الاحتلال في المنطقة التي تقطنها العائلة في مدينة جباليا، اتخذت عائلة شهاب قرارًا سريعًا بترك منازلهم واللجوء إلى بيت أحد الأقارب بحثًا عن قدر من الأمان، حملوا أطفالهم، وذكرياتهم، وما تبقى لهم من حياة مستقرة، لكن الصاروخ الذي سقط فجرًا حوّل هذا الملجأ إلى ركام، وقلب محاولة الهروب إلى كارثة جماعية.
صوت سعاد في الظلام… ذاكرة الناجية
تروي إسلام اللحظات الأولى للقصف بصوت مرتجف: “كل شيء انقلب في لحظة… لم أرَ سوى دخان كثيف وظلام دامس يبتلع كل شيء من حولي، كان الصمت مخيفًا، إلا من صوت سعاد، الذي كان يتردد في أذني وكأنه حبل نجاة أتمسّك به وسط الظلام، قاسم كان ملتصقًا بي، لم أكن أعرف إن كان بخير أو مصاب.”
وتتابع: “عندما وصلت إلى المستشفى، كنت أصرّ على أن سعاد ما زالت على قيد الحياة… كنت أسمع صوتها بوضوح، كأنها تناديني، لكنهم أخبروني هناك أن الجميع قد استشهد… زوجي، أطفالي، إخوتي … ولم ينجُ من العائلة الكبيرة سوى قاسم، وحده نجا من بين الركام والموت.”
أحلام تحت الركام
ورغم ما تركته الجراح من أثر في جسدها وروحها، ظلت إسلام تستعيد تفاصيل البيت الذي تحوّل في لحظة إلى ركام، كأنها تحاول الإمساك بما تبقّى من حياة سُرقت منها على غفلة، كانت تتحدث بصوتٍ مكسور عن زوجها أحمد، الرجل الحنون الذي حمل لأسرته أحلامًا بسيطة لكنها كبيرة في معناها؛ حلم ببيت آمن، ومستقبل يليق بأطفاله الذين لطالما رأى فيهم امتدادًا له.
وتقفز إلى ذاكرتها صورة طفلها عبدالرحمن، أكثر أبنائها تهذيبًا وهدوءًا، ذلك الصغير الذي كان يملأ المكان حضورًا ناعمًا لا ينسى، ثم لينا، الصغيرة الذكية الحساسة، التي اعتادت أن تعتني بإخوتها وكأنها أمّهم الصغيرة، تُصلح أزرار قمصانهم وتربط شَعَر سعاد في الصباح، أما سعاد الخفيفة الظل، فكانت روح البيت وضحكته، لا تفارق الفساتين ولا تفارق الضحكة التي كانت قادرة على محو تعب يوم كامل بمجرد دخولها إلى الغرفة.
وتتذكر إسلام أيضًا دفء والد زوجها، “أبو أحمد” الذي كان يمثل ركن الأمن والاستقرار في العائلة، كان حضوره يشبه سقفًا يحمي الجميع، وكلماته تحمل من الطمأنينة ما يكفي ليخفت في قلوبهم ضجيج الخوف، حتى في ساعات القصف.
لكن كل تلك الوجوه، بتفاصيلها الصغيرة وحكاياتها، اختفت في لحظة واحدة؛ لحظة ارتفع فيها الغبار، وانطفأت فيها كل الأصوات التي كانت تجعل من ذلك البيت مكانًا نابضًا بالفرح، وبات المنزل الذي عاشوا فيه سنواتٍ من الدفء مجرد ذكرى مثقوبة بالحزن، مكدّسة فوق تلال من الرماد، لا تحمل سوى بقايا حياة كانت، قبل ساعات فقط، عامرة بالضوء.
وتضيف إسلام بحزن قبل أن نغادر البيت: “أنا وأختي خولة وأطفالها وزوجها محمد كنا نردد لبعضنا: “بكرا بنرجع لبيتنا، بس يوم واحد” كانت هاي الكلمات تمثل أملنا الوحيد، لكن القدر كان أظلم وأقسى، وما قدرنا نرجع أبدًا، صار البيت مجرد ذكرى مؤلمة، وأحلامنا كلها تلاشت وسط الخراب والدمار.”
رحلة نزوح… وبداية من الصفر
بعد كل هذا الفقد، لم يتبقَ لإسلام سوى طفلها قاسم، الذي نجا كأنه الخيط الأخير الذي يربطها بالحياة، وبين ركام البيوت والمخيمات المزدحمة، قررت الأم أن تبدأ رحلة نزوح جديدة، لا لتحتمي فقط، بل لتبحث عن مستقبل لطفلها الناجي، وتمنحه حياة تنبت فوق الألم.
أمّ تحارب لخلق حياة جديدة
تقول إسلام: “رغم كل ما مررت به، ورغم هذا الثقل الذي يضغط على صدري مع كل صباح، رفضت أن أسمح للحزن بأن يكسِرني، قاسم هو آخر ما تبقّى لي من الدنيا… آخر خيط يربطني بالحياة بعد أن فقدتُ كل شيء.”
وتشير إلى أن “هذا الطفل الذي خرج من بين الأنقاض يستحق أن يكبر في عالم أكثر رحمة، عالم لا يشبه الظلام الذي عرفته عائلته. لذلك أواصل الوقوف رغم كل الانهيارات الداخلية، وأجمع شجاعتي من بين جراحي، لأحارب بالصبر والأمل، كل خطوة أخطوها اليوم هي من أجله؛ لأصنع له مستقبلًا خاليًا من رائحة الحرب… مستقبلًا لا يخشاه، بل يستطيع أن يبني نفسه فيه، ويكبر دون أن يطارده هذا الألم الذي حملناه وحدنا.
قاسم اليوم ليس مجرد ناجٍ من بين الأنقاض…
إنه ذاكرة حيّة لعائلة كاملة غيّبها القصف، وحكاية ممتدة تحمل وجوههم وضحكاتهم وأحلامهم الصغيرة التي لم تُكمل طريقها. يمشي الطفل بخطواته الأولى نحو الحياة وهو يحمل إرثًا ثقيلًا من الفقد، لكن خلفه تقف أمّه إسلام، التي تكتب قصة صموده كل يوم بإرادة لا تنكسر، وتحوّل جراحها إلى قوة تدفعه نحو مستقبل يستحقه.
كريمة شهاب/مجلة الهدف
