أشار ميشيل شحادة، رئيس تنسيقية الأميركيتين وأستراليا وكندا في الشبكة العالمية كلّنا غزّة، كلّنا فلسطين، في حواره مع أفريقيا برس، إلى أن “محور المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وإيران هو حجر عثرة استراتيجي أمام مساعي الهيمنة الأميركية والإسرائيلية، حيث لم يعرقل المخططات فحسب، بل سرّع أيضاً في بدايات ولادة النظام العالمي الجديد، بعد فشل الصراع الأخير في غزّة في تحقيق مطامع الكيان الصهيوني وحلفائه.”
واعتبر أن “التحدي الأشد خطورة أمام المقاومة في هذه المرحلة هو تحويل المعاناة الإنسانية إلى ورقة ضغط تُمسك بها قوى مستسلمة ومعادية لإجبارها والشعب الفلسطيني على تقديم تنازلات سياسية”، لافتاً إلى أن “التحشيد الدولي عبر الأمم المتحدة ليس بريئاً، وهدفه تحصين مشروع الأعداء تحت غطاء قانوني زائف، وإضعاف قدرة المقاومة على المواجهة.”
وأكد أن “الضغط والانخراط الشعبي العربي في هذه المعركة هو عامل أساسي وحاسم في مسار التحرر من الاستعمار الخارجي وأدواته الداخلية”، مبرزاً في ذات السياق أن “دور شبكة كلّنا غزّة استثنائي في المشهد التضامني العالمي، حيث تعمل الشبكة على حماية القضية الفلسطينية من محاولات التصفية والطمس، كما تشكّل خطوة نوعية في اتجاه عولمة التضامن مع فلسطين.”
وميـشيل شحادة هو رئيس تنسيقية الأميركيتين وأستراليا وكندا في الشبكة العالمية كلّنا غزّة، كلّنا فلسطين، والمدير التنفيذي الفلسطيني–الأمريكي لمهرجان الفيلم العربي، والمدير الإقليمي السابق للجنة مكافحة التمييز الأمريكية العربية (1996-2003).
ماهي تحركات شبكة كلنا غزة في الفترة القادمة لأجل مواصلة دعم القضية الفلسطينية وسط استمرار الكيان في انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار، وأيضا في ظل تواصل الأزمة الإنسانية بالقطاع؟
شبكة «كلّنا غزّة كلنا فلسطين» هي مشروعٌ استثنائي في المشهد التضامني العالمي، تتجاوز في رؤيتها وأهدافها حدود التعاطف إلى فضاء الفعل والتأثير. فهي لا تُقام على عاطفةٍ آنية أو اندفاعٍ موسمي، بل على مبدئين مؤسِّسين يشكّلان جوهر نهضتها وبوصلة حركتها.
المبدأ الأول هو حقّ المقاومة بمعناه الواسع، الحقّ الذي كرّسته المواثيق الدولية، وأقرّته الأمم المتحدة لكلّ شعبٍ يرزح تحت الاحتلال أو الاستعمار أو العدوان الخارجي، بأن يقاوم بجميع الوسائل المتاحة لاستعادة حريّته وكرامته وسيادته. هذا المبدأ ليس شعاراً، بل قاعدة أخلاقية وإنسانية وقانونية، تؤسّس لشرعية النضال الفلسطيني، وتمنحه بعده الإنساني والكوني.
أمّا المبدأ الثاني فهو عالميّة الشبكة، إذ تعمل «كلّنا غزّة كلنا فلسطين» على تشبيك الحراكات الشعبية حول العالم وربطها ببعضها البعض في نسيجٍ متماسكٍ متواصل، تتبادل فيه القوى التضامنية الخبرات، وتستمدّ من بعضها طاقة الصمود والإبداع. فهي تدرك أن لكلّ ساحةٍ خصوصيتها، ولكلّ ميدانٍ وتيرة تطوّره، ولذلك تُولي اهتماماً خاصاً لتبادل الخبرات والتكامل بين الحركات، بحيث تساند الساحات المتقدّمة في التنظيم والعمل الساحات التي ما زالت في بداياتها.
فعلى سبيل المثال، حين يتفاعل الحراك الشعبي العربي الداعم للمقاومة – والذي ظلّ في كثيرٍ من الأحيان في إطار العاطفة والمشاعر – مع الحركات التضامنية المنظّمة في الغرب، فإنه يكتسب زخماً جديداً من التجربة والتنظيم والدعم المعنوي والمادي، فيتحوّل من مجرّد تضامنٍ وجداني إلى فعلٍ ميداني منظّم: مظاهرات، حملات، ضغط سياسي وإعلامي. بذلك ينتقل من خانة التأييد إلى خانة التأثير، ليصبح جزءاً من قوّةٍ شعبيةٍ عالميةٍ تُعيد تشكيل موازين القوى في الميدان السياسي والمعنوي.
إنّ هذا التفاعل والتشابك بين الحراكات لا يقتصر على تبادل الدعم، بل يُنتج قوّةً ماديةً ومعنويةً متنامية تشكّل رافعة حقيقية للمقاومة الفلسطينية، وتُسهم في كبح الإجرام الصهيوني الفاشي، والحدّ من سياساته في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والاستيلاء على الأرض.
كما تساهم في حماية القضية الفلسطينية من محاولات التصفية والطمس التي يسعى إليها الأعداء بكلّ أدواتهم وإمكانياتهم.
بهذا المعنى، تمثّل شبكة «كلّنا غزّة كلنا فلسطين» خطوةً نوعية نحو عولمة التضامن مع فلسطين، ونقلاً للموقف الأخلاقي من حيّز التعاطف إلى حيّز الفعل، ومن الانفعال إلى المبادرة، لتغدو صوتاً عالميّاً واحداً يردّد: كلّنا غزّة… كلنا فلسطين… كلّنا مقاومة.
برأيك أي تحديات تواجهها مهمة إعادة اعمار قطاع غزة؟
التحديات كثيرة، لكن أعتقد أن التحدّي الأشد خطورة هو تحويل المعاناة الإنسانية إلى ورقة ضغط تُمسك بها قوى مستسلمة ومعادية لإجبار المقاومة والشعب الفلسطيني على تقديم تنازلات سياسية. إنّ إعادة بناء المسكن وتأمين الغذاء والدواء – وهي حقوقٌ إنسانية أساسية – يمكن أن تُستغل كوسيلة للضغط: بتُعمّيَق الألم، وبوضع شروطٌ سياسية على المساعدة، ومن ثم يُحاك في هذا المجال مسلسلٌ من الابتزاز يهدف إلى تكسير تماسك الشعب وإضعاف التزامه بالمقاومة.
أهلنا في غزة حرموا من أبسط ضروريات الحياة لمدّة عامين؛ عاشوا في العراء تحت النار، كانوا محرومين من المسكن والأمن والدواء. ومع ذلك صمدوا – صمودٌ أسطوريّ في وجه أقسى أشكال العنف والإجرام. هذا الشعب البطولي يرى بوضوحَ ما تسعى إليه قوى العدو: محوٌ تامّ للتاريخ والجغرافيا الفلسطينية، وحسم الصراع لصالح مشروع احتلالي إلغائي. والصراع هنا وجودي، لا يقبل التوفيق ولا الوساطات التي تُريد أن تبيعنا السلام مقابل تنازل عن الكرامة والحق.
لذلك، لا يجب أن نسمح لأنصار التسويات المشروطة أو لمروّجي سياسة “إعادة الإعمار مقابل الاستسلام” أن يحوّلوا المساعدة إلى سيفٍ على رقبـة الفلسطينيين. لقد فشلت محاولات التطهير العرقي والتصفية على مرّ العقود بسبب صمود الشعب الفلسطيني، وسيفشلون اليوم كما فشلوا بالأمس. لقد أثبتت التجربة أن الشعب الفلسطيني، متحدًّا بالمقاومة وبالدعم الشعبي الحقيقي، الذي شكل الدعامة والضمانة الأصدق لثبات القضية وبقائها وانتصارها في النهاية.
إنّ واجب كل إنسان حرّ – وبخاصة الجماهير العربية والإسلامية – هو الوقوف إلى جانب أهلنا في غزة بالدعم الذي يعزّز صمودهم: مادّيًا وسياسيًا وقانونيًا ومعنويًا. علينا تزويدهم بكل ما يلزمهم من إمكانيات الصمود، وقطع الطريق أمام أي محاولة لاستغلال معاناتهم كورقة ضغط سياسية. التضامن الحقيقي هو الذي يحمي الحقوق ولا يساوم عليها.
مع اتجاه واشنطن لطرح مشروع قرار لإنشاء قوة دولية في غزة، هل هو برأيك إدارة جديدة للقطاع المحتلّ أم تكريس للاحتلال الصهيوني؟
أرى أن هذا المشروع، الذي يلجأ إليه الأعداء عبر الأمم المتحدة، هو دليل واضح على تراجع موازين القوة لصالح المقاومة. لماذا يلجؤون الآن إلى مؤسسات دولية بعدما حاولوا في البداية أن يفرضوا إرادتهم بالقوة العسكرية الهائلة، مدعومين بترسانة الناتو وبتعاون رسمي لبعض الدول العربية؟ الجواب واضح: لأنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم بالقوة وحدها، فبات لزاما عليهم تحويل المواجهة إلى ساحة سياسية وقانونية لإكمال ما عجزوا عنه عسكريا.
التحشيد الدولي عبر الأمم المتحدة ليس بريئا – إنه آلية لتعويم مشروعهم وتحصينه تحت غطاء قانوني زائف، يهدف إلى تحييد الدول الكبرى وإضعاف قدرة المقاومة على المواجهة. هم يسوقون لهذا المسعى بوصفه وسيلة «لوقف الحرب وتخفيف المعاناة»؛ لكن الهدف الحقيقي هو الاستحواذ على قطاع غزّة، تفكيك بنية المقاومة، تهجير شعبنا من غزة والضفة، وتصفية القضية الفلسطينية نهائيا. هذا التجميل القانوني لا يغير من طبيعته كأداة استعماريّة لإتمام مشروع الإقصاء والإحلال.
علينا أن نفهم جيدا أنّ الكيان الصهيوني، بدعم محافل الصهيونية العالمية وحلفائه الغربيين، لا يستهدف قطاعا جغرافيا فحسب، بل يستهدف الكيان الفلسطيني بكامله: وجوده الديموغرافي، وتمثله السياسي، وحقوقه القانونية والإستراتيجية. وحتى إذا رضخت شرائح من الشعب الفلسطيني للتسويات أو الاتفاقيات – كما حصل سابقا في بعض اللحظات التاريخية – أوسلو- فلن يضمن ذلك لهم حياة كريمة على أرضهم تحت الاحتلال؛ فبقاءهم على الأرض بحد ذاته يشكل تحديا وجوديا للمشروع الصهيوني، ومن ثم فأن الصهاينة لن يتوانوا عن المس بالوجود الفلسطيني بوسائل أخرى.
لذا يجب أن نتحصّن ونفضح هذه المحاولات ونكشف أهدافها الحقيقية أمام جماهيرنا والعالم: يجب أن لا تنطلي علينا شعارات «الإنسانية» وهي تُستخدم كغشاء لتصفية الحقوق. التضامن الحقيقي يقتضي الوعي واليقظة والتمييز بين من يسعى إلى تخفيف المعاناة كغاية إنسانية وبين من يستغل المعاناة كوسيلة لابتزاز الشعب وتفكيك مقاومته. ثمن الصمود والمقاومة، مهما ارتفع الألم تفاقمت التضحيات، أقل بكثير من ثمن الاستسلام والخضوع؛ لأن الاستسلام يعني نهاية المشروع الوطني وطمس الوجود.
كيف تقرأ خطة ترامب في غزة، هل برأيك الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل أفرغ الخطة من مضمونها؟ وهل بوسع ترامب ممارسة ضغط فعلي على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإنقاذ خطة السلام وإيقاف الانتهاكات المستمرة بالقطاع؟
خطة ترامب – أو أي إدارة أمريكية تجاه غزة وفلسطين بوجه عام – لم تتغير في جوهرها ولن تتغير؛ لأنها تتجاوز الحدود الوطنية لتتجه إلى أبعاد إقليمية وعالمية. نحن أمام مشروع استراتيجي يتكيّف مع تحوّلات النظام الدولي: في ظل تآكل الهيمنة الغربية الأحادية، تتبلور لعبة جديدة متعددة الأقطاب، وتتصاعد منافسات كبرى بين قوى عالمية. وفي سياق هذا التحوّل، يتحوّل العالم العربي – بثرواته وجغرافيته ومكانته الإستراتيجية – إلى الجائزة الكبرى التي يتنافس عليها اللاعبون الكبار.
وللأسف، في غياب مشروع عربي قومي ناهض يحمي مقدّرات الشعوب ويصون مستقبل الأجيال، يصبح العالم العربي ملعبا للآخرين وساحة تُفعل فيها الخطط، لا فاعلًا يصوغها. الخطة الأمريكية في جوهرها تسعى أولاً إلى استنزاف ثروات المنطقة لدعم اقتصاد متعثر، وثانيا إلى استغلال الموقع الجغرافي والمقدرات الاقتصادية كأداة لمواجهة قوى صاعدة كالصين وروسيا، والحفاظ على القدرة على التأثير والتحكّم بالنظام العالمي.
أمام هذه الرؤية، يبرز عامل محور المقاومة – في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وإيران – كحجر عثرة استراتيجي أمام مساعي الهيمنة. هذا المحور لم يعرقل المخططات فحسب، بل سرّع أيضا في بدايات ولادة النظام العالمي الجديد؛ إذ ككل صراع فشل في تحقيق أهداف الهيمنة هو بمثابة شرخ يسمح بنشوء توازنات مختلفة. لذلك يسعى الأعداء إلى تحطيم فكرة المقاومة ذاتها، لأنّ نجاحهم يتطلب نزع كلّ قدرة احتجاجية أو مقاومتية قد تُعطّل مسارات مشروعهم.
وهنا يكمن جوهر الصراع: تفكير الاستعمار ثابت في طبيعته – السيطرة، الاستغلال، الإلغاء – وهو نفس التفكير الذي أدّى تاريخيا إلى انهيار إمبراطوريات. هذا التفكير يواجه جهازا مناعيا إقليميا شعبيا يقاوم محاولات الإحلال والطمس. أما لاختلافات بين المركز الامبريالي والكيان الغاصب فتبقى – في أحسن الأحوال – اختلافات تكتيكية ووظيفية؛ إذ لن يتخلّى المركز عن هذا الكيان إلا في حالة واحدة: هزيمته أو تفكك وانهيار وظيفته تحت ضغط مقاومة شعوب المنطقة وجهازها المناعي.
هناك تقارير إعلامية تحدثت عن “بروز عبارة النموذج اللبناني في غزة الذي يحيل إلى خطر التحول إلى حرب محدودة الوتيرة تتصاعد بين الحين والآخر”، هل تتوقع مثل هذا السيناريو بالقطاع؟
أنا أعتقد أن الهدنة الحالية تحمل في طيّاتها دليلاً على فشل القوة العسكرية في تحقيق أهدافها، كما فشلت في لبنان فإنها فشلت أيضاً في غزة. لقد أثبت الكيان أنه قادر على القتل الوحشي، لكنه عاجز عن الانتصار الحقيقي عندما يواجه مقاتلا مقاوما لا يملك سوى الإيمان والعقيدة والتضحية — وهي أقوى ذخيرة في تاريخ النضال. هذه العزيمة، وهذه العقيدة، هي السلاح الحاسم الذي استطاع عبر الزمن أن يُحطّم الحديد والنار والدبابة والطائرة، ويحوّل آلات الحرب إلى خردة بلا معنى على أرض المعركة، كما حدث في غزة، وكما أثبتت الشعوب في نضالها ضدّ الاستعمار تاريخيا أن الإرادة الوطنية والإيمان بالحق أقوى من كل ترسانة عسكرية، وقادرة على كسر سلاسل الاحتلال وإسقاط أعتى الإمبراطوريات.
ولذلك فإن تحويل الحرب إلى شكلٍ آخر ليس صدفة، بل ضرورة تكتيكية فرضتها عليهم ارتدادات الطوفان الإقليمية والعالمية وصمود محور المقاومة في لبنان وفلسطين، وإخفاقهم المتكرر في اليمن وإيران. لم يعودوا يحتملون الاستنزاف المفتوح، فاختاروا أن يتحوّل العنف إلى حربٍ تدمير وقتل، واغتيالات تدار عن بُعد، تمنحهم فرصةً لإعادة ترتيب أوراقهم، وللتجهيز لمعركة قادمة وصفوها هم أنفسهم بأنها حرب وجودية — وهي كذلك فعلا، وعلينا أن نستوعب هذه الحقيقة جيدا.
إنّ التناقض مع هذا الكيان ليس نزاعا عابرا يُحلّ بالتفاوض أو التسويات المؤقتة، بل تناقض تناحري لا يُحسم إلا بهزيمته وتفكيك بنيته الوظيفية. هذا الكيان لا يعيش إلا بوظيفته المركزية: السيطرة، التوسع، القتل، والتدمير. ولن يتوقف عن عدوانه طالما بقيت تلك الوظيفة قائمة، لأنه كيان مصنوع ليخدم مشروعا استعماريا أكبر منه.
من هنا، علينا أن نقرأ المشهد بوعيٍ استراتيجي: الهدنة ليست نهاية المعركة، بل استراحة مقاتل، تكشف ضعف العدو أكثر مما تُخفيه. الصمود والعقيدة والتلاحم الشعبي هي التي ستحسم الصراع، كما حسمته الشعوب من قبل في وجه كل احتلالٍ واستعمارٍ غاشم. فالمعركة طويلة، لكنها معركة وعيٍ وإيمانٍ قبل أن تكون معركة سلاح، ومعركة حقٍّ ووجود قبل أن تكون معركة سياسة وعسكر وحدود.
برأيك هل بوسع الضغط الشعبي العربي والعالمي أن يدعم التهدئة بالقطاع ويقف عائقا أمام إجرام الكيان المستمر؟
الضغطُ والانخراطُ الشعبي العربي في هذه المعركة هو عامل أساسي وحاسم في مسار التحرر من الاستعمار الخارجي وأدواته الداخلية؛ فلا نصر يتحقّق بمعزل عن شعوب واعية وفاعلة. الشعوب تمر بمراحل تاريخية تتغيّر فيها أدوارها ومسؤولياتها بحسب تطوّر وعيها، وبحسب حجم الجهود والوسائل التي يبدعها العدو في قمعها وتكريس خضوعها أو في ترويج الخديعة وإضعاف دورها. ولذلك، فمهمّتنا الأساسية هي تمكين هذه الجماهيرِ من استعادة دورها التاريخي: صناعة القرار النضالي، الانخراط الميداني والسياسي، وبناء هياكل تنظيمية قادرة على التحدّي والمواجهة.
ومعركة تحرير فلسطين هي الحلقة المركزية والمحورية في هذا الصراع الأوسع من أجل تحرير الشعوب العربية من قيود استعمارية متجذّرة – منظومة سايكس-بيكو في شكلها التقليديّ أو في تنويعاتها الحديثة – التي تسعى دائما إلى إعادة إنتاج نفسها بأدوات متجددة لنفس الأهداف: اقتلاع الإرادة، نهب الموارد، وتكريس تبعية إستراتيجية. إنّ انتصار الشعب الفلسطيني واستعادة حريته لن يكونا منفصلين عن نَهْضة عربية شاملة تقودها شعوب حرة واعية وقادرة على تحويل معاناتها إلى طاقة للتحرّر والكرامة.
لماذا يهتم العرب بفوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك، هل سيدعم فوزه قضايا الجالية العربية بالولايات المتحدة خاصة أنه معروف بدعمه لفلسطين؟
فوز ممداني ليس حدثا عابرا في السياسة الأمريكية، بل هو محطة مفصلية تحمل أبعادا متعددة – على مستوى طموحات الجاليات العربية والمسلمة في أمريكا، وعلى مستوى تطلعات شعوب العالم، بل وعلى مستوى الوعي الشعبي الأمريكي نفسه.
أولا: على مستوى الجاليات العربية والمسلمة، يُمثّل فوز ممداني لحظة فارقة في مسيرة كفاح الجاليات العربية والمسلمة ضد التهميش والشيطنة التي لاحقتنها لعقود طويلة. لقد كانوا في قلب استهداف الأيديولوجيا العنصرية البيضاء والصهيونية العالمية، لا لشيءٍ سوى لأنهم يحملون في هويتهم إرث العروبة والإسلام، ولأنهم يختزنون في وعيهم الجمعي طاقة كامنة للدفاع عن القضية الفلسطينية ومواجهة نفوذ من يعتاشون على تزييف الوعي وتشويه العدالة في الغرب، وخصوصا في الولايات المتحدة.
إنّ نجاح ممداني في الفوز بمنصب عمدة أهم مدينة في العالم – من حيث الثقل المالي والاقتصادي، ومن حيث كونها مركزا لأكبر جالية يهودية خارج فلسطين المحتلة – هو إعلان رمزي بانهيار سردية الاستعمار والصهيونية في الوعي الغربي. إنه انقلاب في اتجاه الريح: من خطاب الخضوع والتبرير إلى خطاب التحدّي والمساءلة. فممداني، المهاجر الإفريقي المولد ذو الأصول الآسيوية، المسلم، هو النقيض الكامل لما أراد النظام الإمبريالي تهميشه، فإذا به يعتلي منصّة القرار في قلب الإمبراطورية نفسها.
ثانيًا: على مستوى طموحات شعوب العالم: يعبّر فوز ممداني عن صعود تيار عالميّ جديد طالما أُقصي عن المشهد السياسي والإعلامي، تيار يرفض منظومة الهيمنة والإمبريالية والعنصرية التي حكمت العالم منذ قرون تحت راية «الاستثنائية الأمريكية». إنه التيار الذي يرى في العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية بوصلة للسياسة، لا أدوات للشعارات.
هذا التيار الشعبي – وخصوصا بين جيل الشباب وجيل زد – بدأ يمسك زمام المبادرة، مطالبا بسياسات تُقدّم الإنسان على السلاح، والمجتمع على الشركات، والسلام على الحرب. هؤلاء الشباب أدركوا أن الطبقة البِليونية والمجمّع الصناعي العسكري والشركات العابرة للقارات قد رهنوا مصيرهم وأحلامهم، بديون مركبة خيالية على مستقبلهم، فنهضوا لاستعادة مصيرهم من بين أنياب رأس المال، ولسحب الموارد من الخارج إلى الداخل، من الحروب إلى الإعمار، من التسلّط إلى العدالة الاجتماعية.
ثالثًا: على مستوى التحوّل الحضاري العالمي: إنّ التقاء وعي الداخل الشعبي في القلب الامبريالي، بوعي الشعوب الحرة في العالم، يشكّل تطورا تاريخيا بالغ الدلالة. فكما تسعى شعوب الجنوب إلى التحرّر من قبضة الهيمنة الغربية، يسعى جيل جديد داخل أمريكا إلى التحرّر من هيمنة رأس المال والحروب التي دمرت إنسانيته ومجتمعه. هذه التقاطعات بين مصالح الشعوب المقهورة في الداخل والخارج هي بذور ولادة عالمٍ جديد أكثر توازنا وعدلا، بدأ يتشكّل ماديا ومعنويا، وقد جسّد انتخاب ممداني أحد أبرز تجلّياته الواقعية.
نرجو وندعو ونعمل أن يكون هذا أول الغيث… ثم ينهمر. فما نشهده اليوم هو امتداد لبركات طوفان الأقصى الذي لم تنتهِ موجاته بعد، بل لا نزال في بداياته. هذا الطوفان الأسطوري الذي أعاد للعالم بوصلة الوعي، وحرّك الساكن في ضمائر الشعوب، وسيمضي في ارتداداته حتى تتكشف العجائب التي تغيّر وجه التاريخ، وتعيد للإنسان معنى الحرية والكرامة بأذن الله.
