أزمة طيف عريض جدّا ممّا يسمّى «الإسلام السياسي» (السنّي) الغالب عليه تنظيم «الإخوان المسلمين»، أنّ مجموع أو بالأحرى تراكمات الاصطفاف المرحليّ، الداخلي والإقليمي كما العربي والإسلامي، نهاية بالدولي، لا تتوافق البتة مع ما هو ثابت من خيارات استراتيجية عبّر عنها شهيد الحركة الأول الحسن البنا كما الشهيد الثاني السيد قطب…
طال الزمن أو قصر ستضع السياسة أوزارها، ليتمّ (إعادة) طرح في نهاية المطاف السؤال (الأبدي) عن هوية الاتجاه الذي اتخذه أحد أهمّ التنظيمات السياسيّة، على مستوى الخارطة العربيّة/الإسلامية على مدى قرن تقريبا،ـ من الأكيد أنّه سيبقى إلى أجل بعيد ذلك اللاعب الفاعل فوق خرائط المنطقة من طنجة إلى جاكارتا وأبعد من ذلك لكثير…
على المستوى الداخلي، يأتي الخطاب شاكيا على الدوام ودون انقطاع من غياب أو هو وهن الديمقراطية، بين أنظمة تعمل على اجتثاثهم كما هو حال مصر، واخر يريد استبعادهم كما يرون في تونس وثالث يعمل على تهميشهم والتعمية عليهم ضمن الحالة الجزائرية. على الأقل وفق ما يسجّل القيادي في حركة حمس عبد الرزاق مقري في الجزائر عبر كتاباته.
غياب «الديمقراطية» أو عدم اكتمالها وحتى عدم نضجها كما يرى عدد من الكتاب الإسلاميين، دعا إلى مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية ومجمل المعسكر الغربي المتبني لنظرية فوكوياما لنهاية التاريخ، جهرا وعلانية إلى التدخل بكل الوسائل بما في ذلك العسكرية لقلب النظام «الانقلابي» في تونس، والعود بالبلاد والعباد إلى سالف عصرهم.
خفّ الطلب عمّا كان قبل السابع من أكتوبر، لينقلب إلى اعتبار إسقاط النظام التونسي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أمر غير مزعج. فقط يعتبرون ذلك من قبل «ضرب الظالمين بالظالمين» لا غير.
إن كان من ثابت في رؤية الإخوان للولايات المتحدة الأمريكية ضمن مجمل قراءتهم للواقع داخل أوطانهم، فهو اصرارهم والحاحهم وتأكيدهم الذي لم يفل فيه لا الزمن ولا ما يلقون من صدّ بأنهم لا يحملون في جيناتهم أي رفض للديمقراطية في الصيغة المعمول بها في الغرب الليبرالي، بل هم رأس الحربة في الذود عن هذا الخيار، دون فهم أو أدنى قراءة عقلانية للواقع الماثل أمامهم بأن الديمقراطية في شكلها أو بالأحرى في اشكالها الليبرالية المتعارف عليها في الدول الغربية هي بين أزمة خطيرة ستعصف بها أو في أقلّه أصابها ما يشبه داء الجذري (عافانا وعافاكم الله) الذي سيترك ندوبا شديدة الخطورة لن تشفى منها أبدا…
ثانيا وهذا الأهم أنّ أخر هموم دونالد ترمب أن يكون قيس سعيد هتك ستر ديمقراطية كفر بها سيد البيت الأبيض.
ديمقراطيّة يدافع عنها مقال يقلم عضو مجلس الشورى لحركة النهضة الكاتب والصديق الخلوق جلال الورغي على موقع قناة الجزيرة (والكل يعلم موقع هذا الموقع على خارطة الإعلام على المستوى الدولي) انحصر همّه في السعي إلى تأكيد أهلية الإسلاميين للالتحاق بالمحفل الديمقراطي.
توجه بكامله تحس من خلاله أن في الأمر خللا فكريا أو أن الفكر الاخواني لا يزال حبيس زمن ولى وانقضى عندما صار آخر هموم الغرب التأكد من غياب أي موانع جينية لدى هذا الفصيل الاخواني لحكم تونس بما يرضي الهة الديمقراطية في الغرب.
من ذلك توافقت جميع الخيارات الاخوانية على المستوى الإقليمي بما يرضي وفي رواية اخرى بما لا يغضب الولايات المتحدة الأمريكية وتوابعها في أوروبا، حين تتحصن القيادات الرسمية للتنظيم في أبعاده القطريّة بالصمت وتمسك لسانها مثل شهرزاد عن الكلام المباح، لكنها تفتح الأبواب مشرعة أمام أذرعها الإعلامية مثل قناة المحور اللندنيّة والمؤلفة قلوبهم مثل العميد هشام المدب، للتعبير بكل صراحة وبالوضوح الذي ليس بعده وضوح بأنّ الهوى في مسألة الصحراء الغربية هو بالكامل ودون أدنى تردد والصوت الأعلى إلى جانب المغرب وفي معاداة صريحة ومعلنة تقطر سمّا للجزائر.
من باب العقل والمنطق وقراءة المشهد على حقيقته يكون الاعتراف أن هذا الموقف لا يمليه كرها للجزائر (في جميع الحالات) بقدر ما هو الرعب من عواقب عدم اتخاذه، خاصة قطع شعرة معاوية مع الغرب بكامله وعلى الأخص ونيرون العصر دونالد ترامب، الذي سيقرأ عدم الاصطفاف في صورة اصطفاف إلى جانب الجزائر، في شكل اصطفاف بالاستتباع إلى جانب إيران وروسية والصين، وبالتالي تنخرم المعادلة التي صرف عليها من الوقت والجهد الكثير.
يهون الموقف من الجزائر أمام فضيحة الإخوان في كلّ من مصر والأردن، حين جاء الموقف من المجزرة المتواصلة وشلاّل الدمّ في غزّة، أقلّ حماسة من موقف حماة البيئة في دولة المكسيك حيال انقراض محتمل لفصيلة نادرة من الفراشات في منطقة نائية في هذه البلاد.
على عكس الموقف حيال سورية حين تجنّد الجميع (من الاخوان) لنصرة «ثورة» أثبتت بأنّ مجرّد المرور من الجولاني إلى أحمد الشرع واستبدال الزيّ الإسلامي بالبدلة الافرنجيّة مع ربطة العنق، والجلوس على عرش الشام، أنهي الثورة وأصبحت سورية «دولة عربيّة» أصيلة بالمعنى المتداول في منطقة شرق المتوسط، بأنّ فلسطين أخر الهمّ، على مستوى الموقف السياسي، حين لم يطلب أحد من هؤلاء بالقتال.
يبدو أو هو اليقين بكلّ تأكيد أنّ القيادات الإخوانيّة لم تطالع كتابات أفلاطون، وإن اطلعت عليها فهي لم تعٍ معانيها، وإن وعت، فهي لم تستفد منها، عندما شكلت هذه الكتابات القاعدة الفكرية للعلاقة مع «الأخر» مهما كان، سواء على مستوى صراعات القناعات ومن بعدها شروط اخضاع هذا «الأخر»…
من إسكندر المقدوني إلى دونالد ترمب، يملك العقل الغربي يقينًا قاطعًا بأنّ لا حضارة تستحقّ الوجود خارج الفضاء الغربي، وأنّ الحرب هي حرب قناعات في الأوّل، وعلى رأسها التحذير من معاملة الأخر مثل معاملة الذات، وأخيرًا، الخيار كما كان يفعل إسكندر المقدوني ويفعل ترمب راهنًا، أي جعل الأعداء بين الاستسلام أو الفناء، وبالتالي جميع حالات «السلام» وغيرها ممّا شابه مجرّد أقواس لربح الوقت، لا فوارق أمامهم بين من عبد الديمقراطية أو من كفر بها من غير المنتمين إلى «الذات»…
نصر الدين بن حديد
