– يستسهل كثيرون الحديث عن حرب قادمة، ولا يقصدون تصعيداً محسوباً تحت سقف استبعاد الحرب، بل يقصدون حرباً تشبه ما شهدناه خلال نصف سنة في غزة منذ نيسان الماضي حتى وقف النار، واثني عشر يوماً من حزيران في إيران، وشهرين ونصف من خريف العام الماضي في لبنان وشهر ونصف من ربيع هذا العام في اليمن، ولأن الحروب ليست ترفاً ولا نزوات، خصوصاً عندما تكون كلفتها مرتفعة ومرشحة لمزيد من الارتفاع فإن اختبارات الحروب تخلق تداعيات وخبرات واستنتاجات تتحكّم بقرار الذهاب إلى الحرب مجدداً، وعموماً بالنسبة للدول الكبرى والقوية يستحيل أن يحدث تصحيح عناصر الخلل التي عطلت الفوز الكامل في الحروب التي خيضت، خلال استمرار مناخ الحرب نفسها، وقبل مرور سنوات، كما تستحيل إعادة إنتاج نقاط تفوق نوعية استخبارية وتكنولوجية لا تحدث فرقاً كالذي حدث خلال الحروب التي خيضت، قبل مرور سنوات أيضاً.
– لا نتحدّث هنا عن الذين يقومون بأداء وظيفي للترويج للحرب القادمة خدمة لسياسة رؤسائهم، كما يفعل توماس برّاك كمبعوث للرئيس الأميركي دونالد ترامب، أو الذين يتلقون رواتب من جهات مخابراتية تكلفهم تسويق معادلات ومشاريع، أو الذين يدفعهم حقدهم على المقاومة إلى تحويل تمنياتهم بوقوع الحرب إلى تحليل واستنتاج عن قرب وقوعها، بل نتحدث عن نوعين من أصحاب الرأي، النوع الأول هو الذي ينطلق من قراءة تقليدية لطريقة القرار الأميركي الإسرائيلي، تقوم على اعتقاد بأن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو سوف يضع ثقله لإطاحة اتفاق غزة وما تبقى من اتفاق لبنان، وسوف يحظى في نهاية المطاف بالموافقة الأميركية للذهاب إلى حرب يحسم فيها نصره الناقص، وربما يعيد تصنيع ذريعة حرب قادمة على إيران. والنوع الثاني ينطلق من اعتقاد أن تحولاً استراتيجياً قد حدث في حروب المنطقة لم تعد جيوش البر فيها ضرورة للنصر، في ضوء ما يكثر الحديث عنه حول الذكاء الصناعي بما يشبه الشعوذة استناداً إلى حقائق نجاح أميركا و”إسرائيل” بتوجيه ضربات مؤلمة لقوى المقاومة وإيران.
– السؤال الأول الموجّه للفريقين هو إذا كانت حساباتهم صحيحة، فلماذا قبلت واشنطن وتل أبيب بوقف الحرب في لبنان، ثم كررتا الموافقة في غزة، وهما تعلمان أن الوقت الذي يوفره وقف إطلاق النار للمقاومة في لبنان وغزة والبيئات الحاضنة للمقاومة هو متنفّس وفرصة للتعافي وإعادة تنظيم الصفوف يجعل كلفة الحرب على أميركا و”إسرائيل” أعلى، بينما مواصلة الحرب ومراكمة الإنجازات على الإنجازات يتيح الرهان على تحقيق النصر بكلفة أقل ووقت أقصر، إذا كان النصر متاحاً وتحقيق الإنجازات ممكناً، وقبل وقف النار بينما المقاومة تخرج من معارك برية وأبلت فيها بلاء حسناً، في لبنان وفي غزة، يؤكد حيوية ومحورية حروب البر رغم كل التفوق التكنولوجي، كما يؤكد أن معضلة تفوق قوى المقاومة في حروب البر عقدة لا يسهل حلها كما يعتقدون؟
– السؤال الثاني هو كيف يفسّرون وقف إطلاق النار مع إيران، من دون الحصول على الاستسلام غير المشروط الذي صرّح به الرئيس الأميركي دونالد ترامب كهدف للحرب، ومن دون إطلاق مسار إضعاف النظام نحو إسقاطه كما حلم نتنياهو وتمنى، بينما الواضح أن لدى أميركا و”إسرائيل” ما يقلقهما لجهة مصير كميات اليورانيوم المخصب على نسبة 60% وكذلك لجهة عودة إيران إلى تخصيب اليورانيوم، بينما قالت الحرب إن الضربات الموجعة التي وجهت لإيران لم تمنعها من توجيه ضربات أكثر إيلاماً وقدرة على الاستدامة لـ”إسرائيل”، ومن تحدّي القوات الأميركية في الخليج بالدخول في حرب استنزاف، ما ألزم واشنطن وتل أبيب الدخول في وقف إطلاق نار بلا شروط؟
– السؤال الثالث، كيف يفسر الذين يتحدثون عن الحرب القادمة، ما جرى مع اليمن، ولماذا لم تظهر ما يسمونه بالتحولات الاستراتيجية فعاليتها في توفير تفوق أميركي إسرائيلي على القوات اليمنية في البحر الأحمر، حيث بقيت السيطرة لليمن وهربت الأساطيل الأميركية وتأقلمت “إسرائيل” مع الحصار المفروض على تجارتها عبره؟ وأين كانت التحولات الاستراتيجية والتفوق التكنولوجي الخطير ومفاعيل الذكاء الصناعي، عندما قبلت أميركا بوقف إطلاق نار شفهي يضمن لها سحب أساطيلها من البحر الأحمر دون شروط، وبقي اليمن يحاصر “إسرائيل” ويستهدف عمقها.
– التوازن الناشئ عن سنتي حرب ضارية، يقول إن هناك جبهتين لا طاقة لواشنطن وتل أبيب على حل المعضلات فيهما في المدى المنظور، وإن ما تسبّبت به الحرب جعل العودة إليهما على خلفية ما جرى مصدر خطر كبير عسكري وسياسي. والجبهتان هما، جبهة البر التي لا غنى عنها، وجبهة الرأي العام الأميركي التي يهدّد أي اعتماد للتفوق الناري بإعادة إشعالها ضد ترامب ونتنياهو معاً، مقابل نجاح واشنطن وتل أبيب بتحقيق إنجازات كبرى لا يجوز هدرها أو تعريضها للخطر طلباً للنصر المطلق، ولو اقتضى الأمر التساكن والتأقلم مع بقاء قوى المقاومة، على قاعدة محاولة محاصرتها بمعادلات سياسية.

داخلية وإقليمية تضعف قدرتها على التعافي، والمعضلة التي يواجهها الأميركي والإسرائيلي هي أن الاستثمار على الإنجازات لمحاصرة المقاومة يستدعي القبول بدولة قوية في سورية ولبنان وجزء من فلسطين ضمن سياق عربيّ حليف لواشنطن، لا يؤدي فروض الطاعة لـ”إسرائيل”، بينما لم يعد في “إسرائيل” من يستطيع تسويق هذه المعادلة والقبول بها.

ناصر قنديل