الهوية اليـ.ـهـ.ـودية”: قومية أم دينية؟

تاريخياً، نحا الخطاب المـ.ـقـ.ـاوم في فلسطين باتجاه تصنيف اليـ.ـهـ.ـود أتباعاً لديانة سماوية فحسب، لا مشكلة معهم جوهرياً بصفتهم تلك، وباتجاه تركيز بوصلة التناقض الرئيس نحو المشروع الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني بصفته احـ.ـتـ.ـلالاً استيطانياً إحلالياً مدعوماً من الاستعمار الغربي قديماً وحديثاً، بغض النظر عن الدين. 

تذهب تلك السردية إذاً إلى أن الصراع في فلسطين وعليها ليس دينياً، بل صراع بين احـ.ـتـ.ـلال صـ.ـهـ.ـيـ.ـوني وحركة تحرر وطني، وبأن اليـ.ـهـ.ـود عموماً، بصفتهم جماعة دينية، لا قومية، ليسوا موضوعاً للعداء، ولا يفترض أن يكونوا.

حتى الحركات المـ.ـقـ.ـاومة ذات الخلفية الإسلامية في الساحة الفلسطينية اليوم باتت تحرص على إعادة إنتاج نفسها كحركات تحرر وطني، بعيداً من مقولة الصراع الديني.  ويظن البعض أن ذلك يعزز مقبوليتها، وربما يساعد في عزل الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية وأنصارها، غربياً ودولياً.

في المقابل، لا يرى اليـ.ـهـ.ـود أنفسهم، ولا يراهم الغرب عموماً، جماعةً دينية فحسب، ولا يرون اليـ.ـهـ.ـودية ديانة سماوية فقط، بل يدور الحديث عموماً عن “الشعب اليـ.ـهـ.ـودي” The Jewish People الذي يمتلك صفة مزدوجة، دينية من جهة، وعرقية-ثقافية من جهةٍ أخرى، في آنٍ واحد، والذي ينتسب عرقياً إلى بني إسرائيل الذين هاموا بين الفرات والنيل قبل آلاف الأعوام، والذي تمثل اليـ.ـهـ.ـودية، كديانة، تقليداً ثقافياً قومياً له.

ليست مقولة الطبيعة القومية-الدينية المزدوجة للهوية اليـ.ـهـ.ـودية مقولةً متطرفةً أو شاذةً بالمناسبة، بل تمثل التيار السائد يـ.ـهـ.ـودياً وغربياً، وهي الإجابة التي تعطيكَ إياها محركات البحث المعروفة مثلاً لو سألتها عن ماهية “الشعب اليـ.ـهـ.ـودي” أو “الهوية اليـ.ـهـ.ـودية”. 

كما أن مقولة “معاداة السامية”، التي يعاقَب من يرمى بها قانونياً في كثيرٍ من الغرب، أو يُعزَل اجتماعياً وسياسياً، تستهدف مناهضي “الشعب اليـ.ـهـ.ـودي” عرقياً وثقافياً، وإلا لقيل “كراهية اليـ.ـهـ.ـود” ببساطة، كما كان يفضل المفكر والناشط الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني ليون بينسكر في نهاية القرن التاسع عشر. 

ومن الواضح أن وسم “معاداة السامية” يستبطن 3 تناقضات جوهرية تحوله إلى مهزلة فعلياً:
أ – أن كثيراً من اليـ.ـهـ.ـود، لا سيما الغربيون منهم، ليسوا حتى من “الساميين” عرقياً.
ب – أن العرب يمثلون فعلياً 99% ممن يعدون “ساميين”، وبالتالي من الأجدر أن تعد مناهضة العرب والعروبة أهم صورة من صور “معاداة السامية” اليوم.
جـ – أن تعبير “السامية”، المشتق من التوراة، والذي نشأ كمفهوم لتصنيف اللغات القديمة على يد المستشرق الألماني فون شولتزر في القرن الـ 18 للميلاد ومستشرقي جامعة غوتنبرغ الألمانية، برز وتكرّس كمفهوم عرقي-ثقافي في القرن الـ 19 على يد أمثال المستشرق الفرنسي إرنست رينان، والكاتب الألماني ويلهلم مار، لوصف فئة دونية عرقياً مقارنةً بالعرق الأبيض، ما يعني الإقرار بتلك الدونية ضمناً تحت ستار مناهضة التمييز ضدها!       

على الرغم من ذلك كله، يجري تبني “السامية” اليوم مرادفاً لما يسمى “الشعب اليـ.ـهـ.ـودي” حصرياً. 

ليست المسألة هنا مسألة خلاف على المصطلحات ودلالاتها، على أهمية ذلك، بل يعني الإقرار بوجود “شعب يـ.ـهـ.ـودي”، و”هوية يـ.ـهـ.ـودية” ثقافية وعرقية متميزة، لا ديانة يـ.ـهـ.ـودية فحسب، أن هناك “مسألة يـ.ـهـ.ـودية”، طرحت في عصر الدول القومية في أوروبا في البداية بصيغة مسألة “تحرر اليـ.ـهـ.ـود وحقوقهم المدنية” في البداية، ثم بصيغة “حق اليـ.ـهـ.ـود في تقرير المصير في دولة خاصة بهم”.

برز هنا تياران: تيار يدعو إلى اندماج اليـ.ـهـ.ـود، على قدم المساواة، في الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، وتيار آخر يدعو إلى انفصالهم وتأسيس كيان سياسي يمثلهم كمجموعة عرقية-ثقافية بعيداً عن “لا سامية” هذا العالم. 

في الحالتين، لا يمكن شطب المشكلة بلاغياً من جدول الأعمال بذريعة أن اليـ.ـهـ.ـود أتباع ديانة فحسب لا جماعة قومية، لأن العالم لا يتعامل معهم كأتباع ديانة سماوية فحسب. 

كما لا يمكن إعادة الكرة إلى ملعب الغرب سياسياً بذريعة أنه صدّر مشكلة عنصريته إزاء تلك الجماعة القومية إلينا، وبالتالي فإنها ليست مشكلتنا، أولاً لأن للغرب مصلحةً جيوسياسية في نشوء المشروع الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في فلسطين، وفي رعايته وحمايته، وثانياً لأن اليـ.ـهـ.ـود في الغرب ليسوا جماعة مضطهَدة ومهمشة، بل جزءٌ عضويٌ من النخب الحاكمة وشريكٌ في صناعة القرار، وخصوصاً في ما يتعلق بسياساته الخارجية في بلادنا. 

تقوض النقطة الثانية بالذات الزعمَ أن الغرب حلّ “المسألة اليـ.ـهـ.ـودية” على حسابنا، وأن اليـ.ـهـ.ـود في بلادنا “جماعة وظيفية” تنفذ أجندته فحسب، ما دامت مصفوفة النفوذ الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني عاملٌ لا يمكن تجاهله في صناعة السياسات الغربية، ولو أنه ليس العامل الوحيد.

يمكن الرد، على المقلب الآخر، أن وضعية اليـ.ـهـ.ـود المتميزة في البلدان الغربية، تسقِط ذريعة ضرورة تأسيس “وطن قومي لهم” كملجأ من “لا سامية” هذا العالم، وإن كانت لا تسقط “حقهم” في دولة قومية خاصة بهم، سواء عانوا من التمييز والاضطهاد أم لا، إذ إن مقولة “الشعب اليـ.ـهـ.ـودي” تنتج تلقائياً مقولة “الدولة اليـ.ـهـ.ـودية”.  

لكنْ، لو افترضنا جدلاً أنهم جماعة قومية تمتلك حق تقرير المصير أسوةً بغيرها، فما الذي يعطيها صلاحية ممارسة ذلك الحق في بلادنا بالذات، وعلى حساب حقنا في تقرير المصير؟  هذا ما سنعود إليه بعد قليل. 

يشار كذلك إلى أن الغرب تشرّب مقولة “التقليد اليـ.ـهـ.ـودي-المسيحي” The Judeo-Christian Tradition، والذي يربط تميز الغرب الحديث، كمنظومة ثقافية، بما زعموا أنه قاسم مشترك بين المسيحية واليـ.ـهـ.ـودية تعمّق منذ الإصلاح البروتستنتي (بعد تاريخٍ حافلٍ من العداء الحاد بينهما). 

ثم إن هناك المسألة الأهم على الإطلاق، وهي أن الديانة اليـ.ـهـ.ـودية، في تياراتها الرئيسة، تكرس علاقة أتباعها بما زعمت أنه “أرض الميعاد”، تحت عنوان “الوعد الإبراهيمي”، كما بسطت في مادة “اليـ.ـهـ.ـودية، الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، ومسألة “إسرائيل الكبرى” عقائدياً”. 

وهي سردية تروجها التوراة، لكنها سردية تزعم أنها “تاريخية” يتبناها حتى غير المتدينين، كما في حالة علم الآثار التوراتي مثلاً.  لكنها سردية تربط “الشعب اليـ.ـهـ.ـودي” ببني إسرائيل الغابرين، وتصنف الوجود اليـ.ـهـ.ـودي خارج “أرض كنعان”، والتي لا تقتصر على فلسطين الانتداب البريطاني، بأنه حالة “شتات”، وبالتالي تُشعر اليـ.ـهـ.ـودي المتدين وغير المتدين بأنه غريبٌ حيثما وجد، ما دام ليس في “أرض الميعاد”.

إن تلك الصلة المزعومة بالأرض، أرضنا، وبوعد “العودة” إليها، وبلغة التوراة، وهي لهجة كنعانية بالأساس، ثم بلغة “الميشناه” أو لغة التلمود، وهي لهجة آرامية، وبتاريخٍ مزعوم عمره آلاف الأعوام، وبثقافة “الشعب المختار” الذي يحظى بمعاملة خاصة من الله عزّ وجلّ بغض النظر عما يرتكبه من تجاوزات وانتهاكات بحقه أو بحق “الأغيار”، جعل من اليـ.ـهـ.ـود جماعة دينية شبه مغلقة تتضمن عناصر تعيد إنتاج نفسها قومياً.

وليست الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، برأيي المتواضع، سوى مفهوم قومي مشتق من جذر ديني، وهي حالة فريدة من نوعها، لأن الشق العلماني من الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية كرّس مقولات الديانة اليـ.ـهـ.ـودية بشأن “أرض الميعاد” بدلاً من أن يتجاوزها.  وكلا الشقين، الديني والعلماني، من الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية ملتزم بمقولة “الشعب اليـ.ـهـ.ـودي”، و”حقه في تقرير المصير” في “دولة يـ.ـهـ.ـودية” على الأقل ضمن “أرض كنعان”، إن لم تمتد من الفرات إلى النيل.

سبقت الإشارة إلى الأطماع التوراتية في لبنان وبعض سورية وسيناء الأسبوع الفائت.  لكن الجزء الغربي من شرقي الأردن يحظى بدوره بمكانة بارزة في قائمة تلك الأطماع.  وعندما كان حاييم وايزمان، المحسوب على التيار العلماني في الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، رئيساً للحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية العالمية، احتج على فصل شرقي الأردن عن فلسطين عندما أسست إمارة شرق الأردن سنة 1921. 

طالب وايزمان بضم جلعاد ومؤاب وآدوم إلى “الوطن القومي اليـ.ـهـ.ـودي”.  وهذا يعني بلغة أسماء المواقع الجغرافية اليوم، ضم المنطقة الواقعة بين نهر اليرموك شمالاً ونهر الزرقاء جنوباً ونهر الأردن غرباً، ثم كل المنطقة الواقعة إلى الغرب من الخط الذي نرسمه على الخريطة بين جرش شمالاً والبتراء جنوباً.

وفي عام 1933، طالب وايزمان البريطانيين بالسماح بالاستيطان اليـ.ـهـ.ـودي شرقي الأردن، وذلك على الرغم من اتفاقيته الشهيرة في لندن مع الأمير فيصل ابن الحسين سنة 1919، قبل أسبوعين من انعقاد مؤتمر السلام في باريس، والذي قدم فيه وايزمان خريطة مطالبات تضم، إضافة إلى كل فلسطين وشرقي سيناء، جنوبي لبنان ابتداءً من نهر الأولي، وجنوبي غربي سورية، وأراضيَ من الأردن أكبر مما يفترض أن جلعاد ومؤاب وآدوم كانت تضمه.

مرة أخرى، لا نتحدث عن فرقة متطرفة أو مغالية في الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، بل عن شخصية مثل حاييم وايزمان تمثل التيار الوسطي صـ.ـهـ.ـيـ.ـونياً، وكان رئيساً للمنظمة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية العالمية على فترتين، أولاهما بين 1920 و1931، وثانيتهما بين 1935 و1946، ليصبح بعدها أول رئيس للكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني بين عامي 1949 و1952.

وعندما اقترحت لجنة “بيل” سنة 1937 تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويـ.ـهـ.ـودية، وافق وايزمان لدوافع براغماتية، باعتبار ذلك “إجراءً مؤقتاً”، ونحن لا نتحدث عن “متطرف تكفيري” هنا، بل عن سياسي وسطي وعالم كيمياء حيوية Biochemistry معروف عالمياً.

لذلك، أكرر، لا بد من تعقيم العقيدة اليـ.ـهـ.ـودية من أي إشارة إلى الأرض العربية كـ “أرض ميعاد” حفاظاً على الأمن القومي العربي للأجيال المقبلة، لو افترضنا جدلاً أننا حررنا فلسطين غداً.

الصلة مع صـ.ـهـ.ـيـ.ـون، كنايةً عن جبل صـ.ـهـ.ـيـ.ـون في القدس، بات عنواناً رمزياً للصلة مع “أرض الميعاد” منذ السبي البابلي، بحسب الروايات اليـ.ـهـ.ـودية، ومنها اشتقت كلمة صـ.ـهـ.ـيـ.ـوني وصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية تعبيراً حركة تعبئة اليـ.ـهـ.ـود من أجل الهجرة إلى فلسطين وتأسيس “دولة يـ.ـهـ.ـودية” فيها في القرن الـ 19. 

هكذا جاءت ما تسمى حملة “العودة الأولى” بين عامي 1881 و1903، في ظل عبد الحميد الثاني، والتي ارتفعت فيها أعداد اليـ.ـهـ.ـود في فلسطين العثمانية إلى 55 ألفاً.  ثم جاءت حملة “العودة الثانية” بين عامي 1904 حتى عام 1914، وضمت 35 ألفاً إضافيين.  وحكم عبد الحميد الثاني بين عامي 1876 و1909.

ويذكر أن الهجرة اليـ.ـهـ.ـودية إلى فلسطين بدأت قبل هاتين الحملتين اللتين حملتا عشرات آلاف اليـ.ـهـ.ـود كل مرة، لكنّ الحملات السابقة، في ظل العثمانيين أيضاً، أضافت بضع مئات أو بضع عشرات كل مرة.  ومن ذلك مثلاً مشاريع موشيه مونتيفيوري خارج أسوار المدينة القديمة في القدس لتعزيز الاستيطان اليـ.ـهـ.ـودي ابتداءً من سنة 1857.    

صـ.ـهـ.ـيـ.ـون التي أصبحت بؤرة كراهيتنا، وعنوان زعزعة استقرار المنطقة، هي بالأساس كلمة عربية جذرها الثلاثي “صهو” ومنه صهوة الجواد، المكان المرتفع الذي يعلوه انبساط، وهناك جبل صـ.ـهـ.ـيـ.ـون في ريف اللاذقية في سورية أيضاً. 

وصـ.ـهـ.ـيـ.ـون دلالة على مكان، مرتفع في هذه الحالة، بحسب اللهجة الآرامية، أو دلالة على التصغير أو التدليل إذا أخذت على وزن “فعلون”، كما خلدون لخالد أو عبدون لعبد أو زيدون لزيد، وهناك من يرى أنها للتفخيم والتعظيم، كما استخدمت في الأندلس أو المغرب العربي: ابن حفصون، ابن سلمون، ابن وهبون، إلخ…

المهم أن سرقة الأسماء الكنعانية والآرامية، وتحويرها عبرياً، كما سرقة الأرض، والتراث، ومنه أطعمتنا التقليدية وأثوابنا المطرزة، هو ديدن هؤلاء دوماً. 

وشتان ما بين الأصل العربي، وتحويره العبري، وخصوصاً عندما يتخذ مضموناً صـ.ـهـ.ـيـ.ـونياً معادياً.  وقد تبلورت الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوروبا غرباً وشرقاً، وكان من روادها الأوائل ليون بينسكر الذي عاش في بولندا وروسيا في القرن الـ 19، والذي نشر كراساً بعنوان “التحرر الذاتي” سنة 1882 قال فيه إن اليـ.ـهـ.ـود يشكلون عنصراً خاصاً لا يمكن دمجه قومياً، وأنهم بحاجة إلى وطن قومي خاص بهم.  وأسس بينسكر “جمعية أحباء صـ.ـهـ.ـيـ.ـون” سنة 1884، وأصبح رئيسها.  وتوفي سنة 1891.  وفي سنة 1934، في ظل الانتداب البريطاني، أحضرت رفاته إلى القدس.

لم يكن بينسكر الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني الأول أيضاً، إذ كان يوجد قبله مثلاً المفكر موسى هِس، رائد ما يسمى “الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية العمالية”، ذات التوجه الاشتراكي، وقد عاش هِس في ألمانيا في القرن التاسع عشر، ونشر كتاب “روما والقدس” سنة 1862، دعا فيه إلى “عودة” اليـ.ـهـ.ـود إلى فلسطين، وتأسيس “دولة اشتراكية” فيها تكون قاعدتها الاقتصاد الزراعي.  وهناك مستعمرة باسم موسى هِس في فلسطين باسم “موشاف كفار هِس”.  وفي سنة 1961، جرى نقل جثمانه إلى مستعمرة عند الشاطئ الغربي لبحيرة طبريا.

وبين بينسكر وهِس هناك داعية “الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية الثقافية”، آشر غينسبرغ، الذي توفي ودفن في “تل أبيب” سنة 1927.  كتب غينسبرغ تحت اسم “أحد هاعام”، وكان تركيزه على تأسيس بؤرة ثقافية يـ.ـهـ.ـودية ولغوية عبرية في فلسطين لتصبح نموذجاً ليـ.ـهـ.ـود العالم، حفاظاً عليهم من الذوبان في “الشتات”. 

وخاض غينسبرغ صراعات شرسة مع ثيودور هرتزل الذي يعد رائد “الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية السياسية” التي عدت العلاقات الدولية والاستراتيجيات السياسية مفتاح السيطرة على فلسطين، الأمر الذي رأه غينسبرغ نوعاً من السطحية والضحالة الخالية من العمق الثقافي والبعد الروحي.   

ويعد “أحد هاعام” استمراراً لحركة التنوير اليـ.ـهـ.ـودية (الهاسكالا)، والتي انتشرت بين نهاية القرن الـ 18 ومعظم القرن الـ 19 في أوروبا الوسطى والشرقية، مع بعض التأثير في أوروبا الغربية ويـ.ـهـ.ـود البلدان العربية. 

وقد افتتحت (الهاسكالا) الصراع العلماني-الديني في صفوف الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، وكانت رافعة لنشوء “القومية اليـ.ـهـ.ـودية” بصفتها العلمانية، وكانت تركز على تعميم العبرية، وتحسين وضع اليـ.ـهـ.ـود ومنزلتهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، بصفتهم يـ.ـهـ.ـوداً بهوية ثقافية متميزة، الأمر الذي يتطلب خروجهم من الغيتوات المغلقة وسيطرة الحاخامات والانخراط في محيطهم.

وبعد ذلك كله لا ننسى الحاخام إبراهام إسحق كوك (1865 – 1935)، الذي يعد أحد أهم رواد الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية الدينية، بعد أن أعاد إنتاج الفكر الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني في قالبٍ ديني، كما أنه كتب ودرّس كثيراً عن “الفكر اليـ.ـهـ.ـودي” والـ”هالاخا” (الشرع اليـ.ـهـ.ـودي)، وشكل قناةً لدمج اليـ.ـهـ.ـود المتدينين في الحركة الصـ.ـهـ.ـيـ.ـونية، ودفن في

القدس، ويبقى إرثه قوياً في اليمين الديني.

كذلك يبقى الرابط بين اليـ.ـهـ.ـودية كديانة، واليـ.ـهـ.ـودية كـ”ثقافة قومية” أو “مجموعة عرقية”، موضوعاً إشكالياً حتى اليوم، حتى بين اليـ.ـهـ.ـود أنفسهم.  لكنّ ذلك الرابط، وإشكالياته، يمثل أحد معالم “الهوية اليـ.ـهـ.ـودية” ذاتها سواء كانت ديانة “مقومنة” أو قومية ذات إرث ثقافي ديني. 

في الحالتين، نواجه حالة قومية-دينية، وهذا يلقي بظلاله بالضرورة على طبيعة الصراع، وبالتالي على استراتيجية خوضه، لأنه ليس صراعاً مع “إسرائيل” فحسب، ولا مع “هوية إسرائيلية”، أو مع عدو “إسرائيلي” فقط، بل مع عدو صـ.ـهـ.ـيـ.ـوني يستند إلى حركة ذات ثقل وامتداد دوليين. 

وفي معركة من هذا النوع، يجب أن نحشد كل ما نملك من احتياطي استراتيجي، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وأممياً، على أساس برنامج التحرير الكامل من النهر إلى البحر، لأن عدونا ذاته، وطبيعته، لا تترك حيزاً لأي حل آخر.

د.إبراهيم علوش