غارة المصيلح تفضح “منعزلات” الطوائف والمناطق: تعاطف إنتقائي؟!

لم يعد اللّبنانيّون يلتفتون إلى كلّ قصفٍ، فقد تعوّدوا أن يمرّ الحدث أمنيًّا، وأن تطمس تبعاته سياسيًّا. لكنّ غارات 11 تشرين الأوّل على المصيلح، شمال اللّيطاني، بدا كأنّها كسرت هذا الروتين. سلسلة ضرباتٍ على معارض جرّافاتٍ وحفّاراتٍ على طريق المصيلح، الزهراني، أصابت منشآتٍ مدنيّةً وتجاريّةً، وأغلقت لوقتٍ وجيزٍ شريانًا حيويًّا يصل بيروت بالجنوب، وأوقعت شهيداً وسبعة جرحى، بحسب وزارة الصّحّة.

“الجيش” الإسرائيليّ قدّم روايته المعتادة، “معدّاتٌ هندسيّةٌ يستخدمها حزب الله في إعادة الترميم”. أمّا الوقائع الميدانيّة والصّور والبيانات، فثبّتت أنّنا أمام أوسع ضربةٍ منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي.

اللافت في هذه الموجة لم يكن عدد الصواريخ أو حجم الخسائر وحدهما، بل أيضًا “ردّة الفعل السّياسيّة” المتباينة، جريًّا على الشائع، أو لنقل الانتقائيّة الصارخة في التّعاطف.

مرّةً أخرى تظهر الحساسيّات اللّبنانيّة على سطحٍ يزعم وطنيّةً جامعةً، بينما الباطن طوائف ومناطق تعلن تضامنها أو تبخل به تبعًا لخريطة الولاءات لا لخريطة الضحايا. هنا بالتحديد ينشأ السّؤال الذي تناوله الرأي العامّ، لماذا ترفع الشكوى الدوليّة الآن، ولم ترفع أمس وأوّل من أمس، في بلدٍ صار الموت فيه “يوميّات”؟

الشكوى إلى مجلس الأمن، سياسة “الممكن” أم إدارة صورة؟
بعيد الضربات أصدر رئيس الحكومة نواف سلام توجيهًا إلى وزير الخارجيّة يوسف رجّي لتقديم شكوى عاجلةٍ إلى مجلس الأمن والأمين العامّ للأمم المتّحدة، بوصف ما جرى “انتهاكًا فاضحًا” للقرار 1701 وترتيبات وقف الأعمال العدائيّة.

ليس في الشكوى جرمٌ بحدّ ذاته، كما تشير المصادر، المشكلة في “الاستنساب” وفي ما يتسرّب للنّاس من انطباعٍ بأنّ الدولة تتحرّك عندما تقع الضربة خارج “جغرافيا الحرب المعهودة”، أو عندما تلامس مناطق ذات رمزيّاتٍ معيّنةٍ، بينما تغدو الضربات اليوميّة في العمق الجنوبيّ “خبرًا قديمًا”. هنا تتكثّف معضلتان، وفق المصدر، الأولى عجز الدولة عن حماية مواطنيها بالتّساوي، والثانية عجزها عن إقناع مواطنيها بالتّساوي أنّها حاولت ذلك.

رسائل الغارة، الاقتصاد كهدفٍ عسكريٍّ
قراءة الرّسائل لا تقلّ أهمّيّةً عن رصد الأضرار، اختيار معارض الجرّافات والحفّارات هدفًا مباشرًا يكشف انتقال الاستهداف الإسرائيليّ من “الأهداف التكتيكيّة” إلى “بيئة الإعمار” نفسها، أدواتٌ وشركاتٌ قد تستخدم في إعادة بناء ما تهدّم، تصنّف في قاموس “الجيش” الإسرائيليّ “معدّاتٍ هندسيّةً تابعةً لحزب الله” أو “تخدم ترميم بنيته”. بهذا المعنى يصبح الاقتصاد نفسه “هدفًا عسكريًّا”، يتداخل المدنيّ بالعسكريّ، والبشر بالآلة، والطريق العامّ بمنطقة القتال. ليس الأمر مستحدثًا في حروب المنطقة، لكنّ كثافته أخيرًا واتّساعه خارج مربّعات الاشتباك هما الجديد.

“تمييزٌ بين الضحايا” أم فشلٌ في تعريف الضحيّة؟
في الساعات الأخيرة، اشتعل النقاش حول “التّعاطف الانتقائيّ”، لماذا ترفع الشكوى الآن؟ ألأنّ الضحايا هنا “أقرب” إلى قلب السّلطة أو أنّهم من غير الشيعة أو من غير البيئة المُلامة على جرّ البلاد إلى الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، أم لأنّ الجغرافيا أشدّ حساسيّةً؟ الرأي العامّ، ولا سيّما على المنصّات المحليّة، طرح ذلك بلا مواربةٍ. والحقّ أنّ التّمييز لا يقاس فقط بوجود شكوى من عدمها، بل أيضًا بطريقة صياغة الخطاب الرّسميّ حول الضحايا، أحيانًا تصبح الضحيّة “مادّةً” لتصفياتٍ حسابيّةٍ داخليّةٍ أو لتعزيز روايةٍ مسبقةٍ.

المدن