في سياق التحولات الجيوسياسية المتسارعة، لم تعد غزة مجرد ساحة اشتباك تقليدية، بل أصبحت نقطة ارتكاز في إعادة تشكيل مفاهيم المقاومة، والسيادة، والعدالة. من منظور استراتيجي، يمكن القول إن غزة قد استكملت المرحلة الكلاسيكية من دورها المقاوم، ولم تعد المسألة مرتبطة حصرياً بحكم حركة حماس أو بامتلاك أدوات المقاومة المسلحة التقليدية. هذا لا يعني أن غزة قد تخلّت عن المقاومة، بل يشير إلى انتقالها إلى مرحلة أكثر تعقيداً ونضجاً، تتطلب إعادة نظر شاملة في بنية المقاومة نفسها.
التحول البنيوي في أدوات المقاومة
لقد شهدت أدوات المقاومة تحولاً جذرياً، تجاوزت فيه البندقية والصاروخ لتشمل فضاءات جديدة: الإعلام الرقمي، القانون الدولي، الاقتصاد المقاوم، والابتكار التكنولوجي. هذا التوسع في الأدوات فرض إعادة تعريف للحدود الجغرافية للمقاومة، التي لم تعد محصورة بالإقليم، بل أصبحت عابرة للحدود، تتفاعل مع شبكات دولية من التأثير والتضامن.
في هذا السياق، لم يعد من المجدي تعديل الاستراتيجيات القائمة، بل بات ضرورياً إعادة هيكلة كاملة لمنظومة المقاومة: مفاهيمها، أدواتها، بنيتها التنظيمية، وآليات اشتغالها. نحن أمام لحظة استراتيجية تتطلب هندسة جديدة للمقاومة، تتناسب مع طبيعة العالم ما بعد غزة، الذي قلب المعادلات التقليدية وأعاد صياغة موازين القوى.
المقاومة المسلحة: إعادة تموضع لا إلغاء
الكفاح المسلح لا يُلغى، بل يُعاد تموضعه ضمن منظومة أكثر تعقيداً وتنوعاً، تتداخل فيها أدوات القوة الصلبة والناعمة. المقاومة المسلحة قد تتحول إلى عنصر ردع استراتيجي، أو ورقة ضغط ضمن منظومة أوسع من الاشتباك السياسي والرمزي. المهم هنا هو تجاوز الفهم الأحادي للمقاومة، والانفتاح على نماذج متعددة تتكامل فيما بينها.
غزة كمنصة استراتيجية في العالم الجديد
في العالم الجديد، غزة ليست فقط رمزاً للصمود، بل منصة لإنتاج نماذج مقاومة متعددة الأبعاد: إعلامية، قانونية، اقتصادية، معرفية، وثقافية. هذا التحول يضع غزة في موقع ريادي، ليس فقط في السياق الفلسطيني، بل في الخطاب العالمي حول الحرية والعدالة. لقد أصبحت غزة مختبراً استراتيجياً لإعادة تعريف العلاقة بين الشعوب والسلطة، بين المقاومة والشرعية، وبين الكفاح والتحول.
نحو هندسة استراتيجية جديدة
المرحلة القادمة تتطلب بناء هندسة استراتيجية جديدة للمقاومة، تقوم على فهم عميق للتحولات التقنية والجيوسياسية، وتستند إلى أدوات مرنة وقابلة للتكيف. هذه الهندسة يجب أن تكون قادرة على إنتاج تأثير مستدام، وتوسيع نطاق الشرعية، وتعزيز القدرة على الاشتباك متعدد المستويات.
غزة لم تعتزل المقاومة، بل انتقلت إلى مستوى أعلى من الوعي الاستراتيجي، حيث تُعاد صياغة دورها وفق منطق يتناسب مع تحديات العصر، ويؤسس لمقاومة أكثر استدامة وفاعلية.
سائد عساف