– مع اتفاق غزة تنطلق ثلاثة خطابات مختلفة تدعو للمساءلة، الأول والأهمّ في الساحة الفلسطينية ويقوده أنصار السلطة الفلسطينية ومن معهم في قنوات الإعلام العربي الداعمين للتطبيع من كارهي المقاومة، وجوهرها تجريم طوفان الأقصى، وتقديم سردية تقول انّ الطوفان جلب كارثة للفلسطينيين ويجب ان يحاكم من وقفوا وراءه من الأحياء والشهداء، وتقول السردية إنّ اعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية هي ثمرة دور النظام العربي الرسمي وعلاقته بواشنطن، والثاني يطال المقاومة في لبنان وجبهة الإسناد، التي يحمّلها كارهو المقاومة من لبنانيين وعرب مسؤولية كلّ ما حلّ بلبنان ويبنون على ذلك دعواتهم لنزع سلاح المقاومة، وتسويق التحاق لبنان بالتيار العربي الأميركي أسوة بالحكم في سورية لحماية المصالح اللبنانية، والثالث في كيان الاحتلال يقول انّ اتفاق غزة نسخة مطابقة لما كان على الطاولة منذ اتفاق كانون الثاني الذي نسفته حكومة الاحتلال بدعم أميركي وذهبا معاً لحرب تولى أحدهما فيها غزة والآخر اليمن، عنوانها التهجير ونزع سلاح المقاومة، للوصول إلى اتفاق لم يتحقق فيه أيّ من الهدفين.
– السردية العربية الفلسطينية المعادية للمقاومة كما السردية الغربية التي تتحدّث عن هزيمتها، تربط جرائم الإبادة بطوفان الأقصى وتمنح ضمناً او علناً صك براءة لكيان الاحتلال وتعفيه من المسؤولية عنها، لتحمّل المقاومة تبعاتها، بالقول ماذا جنينا من الطوفان غير القتل والتدمير، لأنها لا تجرؤ على القول لولا الطوفان لما حدث القتل والتدمير، لأنّ طرح الأمور بهذه الطريقة يفتح الطريق للقول إنه لو كان القتل والتدمير مجرد انتقام من الطوفان لانتهى الأمر بعد شهر أو شهور قتل فيها أضعاف الذين خسرهم الكيان في الطوفان، والقتل والتدمير أداة لتحقيق هدف والهدف معلن على ألسنة قادة الاحتلال وصولاً الى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتهجير سكان غزة، والتهجير ليس مجرد تعبير عن عداء عنصري للفلسطينيين بل جزء من مشروع معلن لاستعادة الغالبية اليهودية في مجموع سكان فلسطين التاريخية بعدما اختلّ التوازن لصالح العرب الفلسطينيين، وما فعله الاحتلال كان مخططاً ومقرراً أن يفعله، وكلّ ما حدث هو أنه وجد في الطوفان فرصة لفعله دون تحمّل المسؤولية الكاملة بالتذرع بالطوفان، ليقوم بتعبئة الرأي العام داخل الكيان وخارجه لخوض حرب التهجير، وموعد حرب التهجير لم يكن بعيداً إذا انتبهنا الى انّ موعد الطوفان تقرّر على ساعة خطة جو بايدن لربط الهند بأوروبا عبر الجغرافيا الفلسطينية مروراً بالتطبيع السعودي الإسرائيلي الذي أعلن عنه بايدن في مؤمر قمة العشرين في الهند قبل الطوفان بأسابيع قليلة، وما يمثله المشروع من تصفية للقضية الفلسطينية وما يستدعيه من حرب مباغتة لسحق المقاومة وتهجير سكان غزة، الذي يمثل عصباً رئيسياً في المشروع، قام الطوفان دون خطة حرب كبرى بقلب الطاولة، فسرع موعد الحرب المقررة أصلاً، وضاع منها عنصر المفاجأة ونجحت المقاومة بالصمود خلالها كما فاز شعبها بإحباط مشروع التهجير، وفشل مشروع التهجير ومعه سحق المقاومة هو هزيمة بكلّ ما تعني الكلمة للمشروع الأميركي الإسرائيلي الذي كشفت الحرب كلّ مفرداته وصار علنياً ورسمياً، ويكفي تثبيت التراجع عن التهجير نصراً للفلسطينيين، الذي لن تأتي للكيان فرصة ثانية مشابهة لتحقيقه، فكيف إذا أضفنا ما استنهضه الطوفان ومعه تضحيات الفلسطينيين من تغييرات وانقلابات في الرأي العام العالمي يعود لها وحدها الفضل في تغيير مواقف الحكومات، وإعادة القضية الفلسطينية الى جدول الأعمال العالمي، ويكفي القول للذين ينسبون الفضل في الاعترافات بدولة فلسطين للنظام العربي، إنّ التوقيت يحكي الحكاية فالاعتراف لم يحدث بعد اتفاقات أوسلو 1993 رغم أنها نصت بتوقيع أميركي إسرائيلي صريح على قيام الدولة الفلسطينية، ولم يحدث بعد إعلان المبادرة العربية للسلام 2002 رغم أنها تقوم على مشروع إقامة الدولة الفلسطينية، تمّت الاعترافات عام 2025 على توقيت الطوفان وصمود شعب فلسطين في غزة ونهوض شعوب العالم لنصرته.
– في لبنان يعرف خصوم المقاومة كما يعرف كارهوها والحاقدون عليها، أنّ ما كشفته الحرب هو إعداد لاستهداف المقاومة لم يتمّ إنتاجه خلال الحرب، والاسرائيلي يتحدث عن تحضيرات عمرها 15 سنة، والمنطقي كان أنّ الحرب المقرّرة لغزة سوف تكون معها حرب على لبنان لضمان عنصر المفاجأة والمباغتة، وبعدما حدث الطوفان وشنت الحرب على غزة، فكان هدف الاحتلال الاستفراد بغزة لإنهائها واختيار لحظة مفاجئة من سياق الحرب للعودة إلى لبنان، كما يعرفون أنّ جبهات الإسناد التي يسخرون منها خصوصاً جبهة لبنان وبعدها جبهة اليمن، كانت أحد أسباب صمود المقاومة والشعب في غزة، لأنها قالت لمن في غزة كحدّ أدنى لستم وحدكم، ومنحتهم روحاً معنوية للصمود عدا عما تسبّبت به من أزمات لكيان الاحتلال، سواء عبر تهجير مستوطني الشمال أو ما ترتب
على الاقتصاد والمجتمع والحال المعنوية وتراجع الثقة بالجيش أو بالوجود بسبب هذا الإسناد، وما كان مقدّراً من وجهة نظر قادة الاحتلال عندما قاموا بتفعيل ما بين أيديهم من قدرات وخطط هو ان تسقط المقاومة بالضربة القاضية، والنزاهة تستدعي من الجميع الاعتلراف بأنه إذا كان ما حصل مقرّراً له ان يحصل مع فارق المباغتة، فإنّ جبهة الإسناد هي التي منعت هذه المباغتة، ويعود لها الفضل في وجود آلاف المقاتلين على الجبهة الأمامية تكفلوا عبرها بإحباط أهداف الحرب بتحقيق نصر حاسم، فمنعوا ما كان مخططاً بثنائية الاحتلال لمدى جغرافي يحقق الأمن في المفهوم الاسرائيلي، ويقضي على المقاومة، فبقيت المقاومة وفشل مشروع الاحتلال، وما بعد الحرب واتفاق وقف إطلاق النار كاف ليكشف أنّ هذه هي الأهداف التي يجري العمل لتحقيق الحدّ الأدنى الممكن منها عبر الطرق السياسية والدبلوماسية بعدما فشل مشروع تحقيق الحدّ الأقصى منها عبر الحرب.
– في الكيان يجهد بنيامين نتنياهو كي يشرح لحلفائه وجمهوره انّ اتفاق غزة هو نصر مبين، فيقول إنه ما كان ممكناً الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لولا الحرب بكلّ ما فيها من وحشية وإجرام، من جهة، وأثمان عسكرية وسياسية وأخلاقية من جهة موازية، وصلت تداعياتها لخسارات لا تعوّض في سمعة “إسرائيل” وحجم تأييدها في شوارع الغرب عموماً وأميركا خصوصاً، وفي ظلّ عدم تضمين الاتفاق ايّ إشارة الى نزع سلاح المقاومة لا يستطيع نتنياهو ان يقول إلا انه سيبقى هذا الهدف حاضراً فإنْ لم يتحقق سياسياً فسوف يعود للحرب، وهو بذلك يعترف ضمناً انّ الانجاز الوحيد المحقق هو استعادة الأسرى، وهنا عليه أن يواجه سؤالين، الأول أليست المقاومة صاحبة معادلة لا إفراج عن الأسرى إلا ضمن تبادل يضمن الحرية لآلاف الأسرى الفلسطينيين ومنهم أصحاب الأحكام العالية، بينما كانت معادلة حكومة نتنياهو الإفراج عن الأسرى بالقوة العسكرية، والسؤال الثاني ألم يكن اتفاق كانون الثاني الذي انقلبت عليه حكومة نتنياهو بالعودة للحرب بعد مرحلته الأولى شبيهاً بما تمّ التوصل إليه في هذا الاتفاق، فلماذا تمّ خوض الحرب الثانية لستة شهور بكلفة معنوية ومادية عالية للعودة الى ما كان موجوداً على الطاولة؟ ونتنياهو لا يملك جواباً على أيّ من السؤالين، وسؤال آخر يتبعهما، هو أين النصر إذا كانت وعود التهجير وإنهاء المقاومة واستعادة الأسرى بالقوة قد تبخرت جميعها، وفي سبيلها دفعت “إسرائيل” ثمناً باهظاً هو مكانة “إسرائيل” في عيون البشرية كلها وخصوصاً من كانوا حتى الأمس ممن يؤيدون “إسرائيل” بحماسة؟
– في هذه الحرب نحن أمام ارتطام تاريخي تكسّرت فيه هياكل وعظام وحطمت الحرب لدى الطرفين الكثير، ووقع الكثير من المفاجآت، ولم تثبت كلّ الفرضيات، بعضها أصاب وبعضها سقط، لكن في النهاية الأكيد أنّ هذه الحرب كانت آخر فرصة لـ “إسرائيل” لتحقيق الأهداف الي وضعت لأجلها خلال عقدين كلّ قدراتها وخبراتها وتحالفاتها، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها، والأكيد أنّ تضحيات المقاومة كانت كبيرة لكنها تضحيات وليست خسائر، بينما خسرت “إسرائيل” فعلاً وكثيراً بما أصابها جراء تحوّلات الرأي العام العالمي والغربي خصوصاً والأميركي بالأخص، ولعلّ هذا التحول صاحب الفضل في فرض اتفاق غزة بشروط لا يمكن إلا أن يترتب عليها إطلاق مسار مساءلة شديد القسوة في كيان الاحتلال.
ناصر قنديل