بينما تضيق العبارات عن أن تحيط بعظمة السيّد حسن نصر الله، رأيتُ أن يكون في إحياء ذكراه رواية حكاية أمة المقاومة؛ حكاية قلوب صاغها بصوته وربّاها بكلماته، لتشهد بأنّه لم يكن رجلًا عابرًا في زمن، بل قدرًا خالدًا في وجدان الأمة. إنّه قائد عابر للقارّات والديانات والأعراق، جمع حوله من تفرّقوا، ووحّد بهمّة روحه من تمزّقوا، فغدا رمزًا إنسانيًا بقدر ما هو قائد أمّة، وشاهدًا على أنّ المقاومة قضيةٌ لا تعرف حدودًا ولا جدرانًا.
لقد نشأت أجيال من النساء والرجال على نبرات خطابه، فغدت كلماته مدرسةً تزرع فيهم الكرامة حين استسلم العالم للذل، وتغرس فيهم روح المقاومة حين غلب الاستسلام، وتحيي في قلوبهم الإيمان حين كاد اليأس أن يخنق الأرواح. لم يكن قائداً سياسياً وحسب، بل كان مربّياً للقلوب، حارساً للضمائر، وبوصلةً للتيه.
وحين ارتقى شهيداً، لم يكن رحيله نهاية لمسيرة، بل بداية لملايين المسيرات. انكسرت قلوب كثيرة في لحظة الغياب، لكنّ الله أحياها من بين الركام، فكانت شهادته ولادة جديدة في وجداننا. عندها أدركت أمة المقاومة أنّها لم تخسر قائداً، بل ربحت قدوةً خالدة، تنقش خطاها في الوعي والذاكرة.
كان حبّها له حبّاً مقدّساً، لا يُقاس بعاطفةٍ دنيوية، بل بحبّ الحقّ المتجسّد في رجل، وبحبّ الإيمان المتجلّي في قائد، وبحبّ التضحية الماثلة في شهيد. كان برهانها على أنّ وعد الله حق، وأنّ المظلومين لا يُتركون، وأنّ الكرامة يمكن أن تُعاش حتى في عالم يطفح ظلماً.
واليوم، وبعد عام على استشهاده، لا تزال ذكراه حاضرة في أنفاس المؤمنات والمؤمنين، في دعاء الساجدين، في خطى المقاومين، في قلوب الأحرار الذين يأبون الانحناء. غيابه جرحٌ لا يندمل، لكنه شعلة لا تنطفئ.
وقد قال أمير المؤمنين عليّ (ع): «الشهداء أحياء عند الله يُرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله». فالشهادة ليست نهاية حياة، بل بداية أبدية في حضرة الله، وبداية حياة جديدة في قلوب الأمة.
وهكذا غدا السيّد حسن نصر الله رمزاً حيّاً: سراجاً يبدّد الظلمات، وبوصلةً تردّ التائهين، وصوتاً يربّي الأجيال جيلاً بعد جيل. لم يكن رحيله فاجعة فحسب، بل كان ميثاقاً جديداً يُحيا في القلوب كل يوم.
وبعد عام على ارتقائه، لم يعد رثاؤه كافياً… بل غدا العيش على خطاه هو الرثاء الحقيقي، والاقتداء بذكراه هو الوفاء الصادق، والحياة به هي العزاء الأسمى.
مريم بن رمضان-تونس