رهبان و فرسان …قوة نفي و عبقرية إثبات…
و إنهم لمنتصرون

إذا أراد الواحد منّا في مجتمع كالذي نحن فيه أن يُدخل على نفسه بعض السّعادة إقتنى الأشياء، أجملها وأثمنها وأندرها. سعى في الوثير أريكة وفراشا ولبس من فاتن الرّيش. هكذا نفهم السّعادة، من العالم الينا وكأنّنا نفهم أنفسنا أوعية تحلّ فيها أشياء العالم فنسعد. في النّهاية يُسعدنا العالم أو هكذا صرنا نفهم ونجرّب. بقدر ما يزيد هذا الفهم ويتجذّر فينا باطنا بقدر ما نصبح رهائن. بل إنّنا نعيد إنتاجه بوعي وعزم أو سهوا وغفلة. تبدو لي فكرة تغيير العالم بسياقنا الإنساني الماثل ضربا من الوهم. العالم هو الذي يغيّرنا ويركّبنا وعبرنا هو يمتدّ كما هو. نحن في العامّ لا نملك غير تثبيته أي أنّنا قوّة محافظة عليه ونحن نحسب أنّنا نصنعه ونغيّره. الواحد لا يملك أن يغيّر ذاتا واحدة فما بالك اذا نطق بأفكار ترسم خططا لتغيير العالم. ولماذا يغيّر ذاتا واحدة؟ هل يضمن هو أنّه تغيّر ليغيّر؟ منذ سنوات أخذتني صدفة جميلة الى لبنان وكنت في بعض قرى جنوب لبنان. كنت في متحف أيضا وجال فكري وأنا أزور مُعسكرات قديمة تحصّن فيها الذين حرّروا جنوب لبنان سنة 2000 وأصابوا الصّهاينة في مقتل سنة 2006. كانت حيث تجوّلت بعض الوقت حياة أخرى وذوات أخرى وبرمجة ذهنيّة ونفسيّة أخرى. زهد مُعجز بقي عطره في المكان. كانوا يفترشون الأرض ولا شكّ وكان الموت قريبا جدّا منهم وكان مذاق مختلف للحياة وهم في حال طوارئ وخطر داهم في كلّ لحظة. المعسكر جبلي وأكيد كانت حشرات وكان برد قاس في الشّتاء. لا أرائك ولا فُرش ولا مياه للاستحمام يوميّا ولا أحسب أنّهم كانوا يعدّون ألذّ الأطعمة ويتمتّعون كما صرنا نفهم المُتع والتمتّع. كانوا يجمعون بين الحضور المؤثّر في العالم والزّهد فيه. كان بينهم وبين العالم جدل وكانت حركة. لا يصنعهم تماما فهم يصنعونه اذا لم يكن كثيرا فقليل دالّ ومفيد. هم في المقابل لا ينكرونه ولا ينفونه ففعلهم فيه وتطلّعهم نحوا تغييرا وتحويل وجهته بما يجتهدون فيه من معنى. الزّهد مدرسة عظيمة والغار معلّم كبير فهؤلاء كانوا في ما يُشبه الغار. سألت نفسي ولا زلت أسأل: كيف يخرج الإنسان اذا عاش هكذا سنوات؟ يخرج مُختلفا جدّا، يخرج متغيّرا جدّا ولانّه يخرج هكذا يتملّك الجدارة بتغيير العالم، قريبا منه ثمّ أبعد وصولا إلى دوائر أوسع. هذا التحوّل لا تصنعه الكتب ولا تضمنه الأفكار ولا تحدّث عنه الجامعات والأكاديميّات ولا تبيع منه حركات السّياسة والأحزاب. كلّها قوى محافظة وتتحرّك تحت سقف العالم. لا تملك غير إعادة إنتاجه حتّى وإن نطقت بكلّ مشاريع التّغيير. سنوات الشدّة والعُسر التي مرّ بها لبنان ربّت أناسا كيفيين جدّا، مختلفين راديكاليّا ومنهم يأتي الجديد. اذا لم يكن كلّ الجديد فبعض مؤثّر ومتين. سلاح هؤلاء الفعّال ليس فقط تلك الأشياء التي تُدار بها الحروب أي السّلاح. سلاحهم حقّا تلك الجرأة الحدّية على الإختلاف. سيكون كلّ العالم ضدّ هؤلاء محطّة بعد محطّة. يكون ضدّهم لأنّهم يختلفون عمّن هم جوهرا صورة العالم وامتداده. مع ذلك سينتصرون لأنّ كيفيّتهم خارقة للكمّيات. لا يعني كلّ العالم شيئا ولا تعني كلّ الأشياء شيئا ولا تعني كلّ الأسلحة شيئا. هم متحرّرون في مستوى ذواتهم العميقة من كلّ كلّ ومن كلّ شيء. لأنّهم متحرّرون هم يحرّرون. من لم يكن في ذاته متحرّرا هل يحرّر؟ لا حتّى وإن سعى في ذلك كلّ السّعي وحرص كلّ الحرص. كلّ هذا مفيد والعالم الذي نحن فيه ويحوّلنا عبيدا يقوم على الحرّية وبها أو هكذا يزعم: عالم دعه يعمل دعه يمرّ، عالم البورجوازية الغربيّة. شخصيّا لا أرى الحرّية تتجلّى كما تجلّت لي في أصحاب الغار أو الكهف هؤلاء. رهبان وفرسان، زهّاد متين التزامهم بالعالم وفيه. قوّة نفي وعبقريّة إثبات. رهاني عليهم قديم متجدّد ولو قال لكم الكلّ أنّهم يُهزمون لا تُصدّقوا فهم المنصورون وقدر المنصور ينتصر.

الهذيلي منصر