الأردن والعاصفة القادمة
تنبع سياسة الدولة الأردنية من قناعتها بأن المحافظة على الذات والبقاء يكون من خلال المحافظة على التوازنات وسط خضم ضارب في التقلب والأطماع الداخلية والخارجية التي مر بها الأردن منذ تأسيسه ، خاصة خلال فترة المد القومي والأحزاب اليسارية في المنطقة ، بالإضافة إلى التهديدات الخارجية المستمرة التي مثلها الكيان الصهيوني من جهة والدول الأخرى المجاورة من جهة أخرى بدءاً من الدولة السعودية في مطلع قيام الدولة الأردنية والذي توقف بضغط من الحليف البريطاني في حينه ، ومروراً بمصر جمال عبد الناصر والبعثين في كل من سوريا والعراق ، وقد نجح المرحوم الملك حسين نجاحاً منقطع النظير في إحتواء تلك التهديدات والمحافظة على الإستقلال النوعي وإبقاء الأردن طرفاً في المعادلة الإقليمية ، ولكن ذلك الظرف قد عفا عليه الزمن فلا يوجد تهديدات داخلية ولا يوجد شخص عاقل في الأردن يفكر في الإنقلاب على نظام الحكم وخلق إضطرابات ، كما أنهى وجود أجهزة أمنية قوية ومتمكنة ما كان يراه النظام من تهديدات داخلية متمثلة في انتماءات أفراد لكل من سوريا والعراق ومنظمة التحرير جزئياً ، مقابل تعاظم التهديد الخارجي من قبل الكيان الصهيوني وهو محور هذا المقال.
لم تبدأ التهديدات الصهيونية للأردن في عصر نتنياهو الذي أعاد مؤخراً السعي وراء قيام دولة يهودية من النيل إلى الفرات بما فيها الأردن ، بل بدأت فعلياً من قبل قيام دولة الكيان وفي أدبيات الحركة الصهيونية وأشار إليها قادتهم من بن غوريون ومناحيم بيغن وشارون الذين نادوا بأن الأردن هي فلسطين وأعلنوا أن هدفهم هو تطبيق سياسة “الترانسفير” المتمثلة في نقل الفلسطينيين من فلسطين التاريخية إلى الأردن وهو ما يرفضه الأردنيين والفلسطينين بشكل قاطع وعلى حد سواء، كما طرح قادة الجيش الصيوني فكرة الإستيلاء على الأردن وتسليمها للفلسطينيين عام 1970 في ظل تعاظم المقاومة ضد العدو الصهيوني ، ويتحدث جميع أفراد الشعب في الأردن عن هذا الخطر الداهم مما يثبت أن لا أحد في الدولة بكافة مكوناتها غافل عن هذا التهديد والدلالة على ذلك إعادة العمل مؤخراً بقانون الخدمة العسكرية الإلزامية “التجنيد الإجباري” ، وإن كانت في مراحلها الأولية ولكن يمكن إعتبارها خطوة في الطريق الصحيح ، ولكن ، لماذا لا نرى أية محاولة جدية لتحصين الأردن من هذا الخطر؟ لا سيما وأن الأطماع الصهيونية لا تحتاج إلى سبب أو مبرر للعدوان بل ستختلق الأسباب عندما تحتاجها حيث سمعنا تصريحات من أقطابها بأن حدود الأردن مصدر لتهريب السلاح والإرهاب إلى الداخل الفلسطيني وأن الأردن لا يقوم بواجبه في منع تسلسل “الإرهابيين” إلى فلسطين ، وهو ما يشبه الذريعة التي إستخدمتها وتستخدمها إسرائيل بقيامها بإحتلال جزء من سوريا التي إعتبرت أنها أصبحت مأوى للإرهاب غير قابل للسيطرة فقام الكيان بالعدوان عليها، وأصبح أسلوبهم هذا معروفاً حيث يبدأ التمهيد للعمل العسكري بخلق الذرائع وتحضير الرأي العام محلياً وعالمياً لقوننة العدوان قبل القيام به.
في البحث في تعريف العلاقة بين الدولة الأردنية والكيان الصهيوني نجد أن جل الشعب يعتبرها دولة عدوة وليست دولة صديقة أو دولة جارة ، لا بل أن مفهوم العدو الأزلي يتطابق مع مفهوم السواد الأعظم من الشعب برغم أن إتفاقية وادي عربة لعام 1994 قد حاولت إلغاء حالة العداء بين الدولتين دون جدوى ، ويدرك القاصي والداني بأن هذا الكيان لا يحترم معاهدة ولا إتفاقية ولا يمكن الأطمئنان إلى نواياه وسينقض إتفاقياته لدى أول فرصة تسنح له والدليل تصريحات نتنياهو الآخيرة التي لا ترى في الأردن دولة جارة ولا دولة شريك في السلام بل تراها كمستخدم مستهلك حال إنقضاء الحاجة إليه ومباشرة بعد التخلص من أعداءها الخطرين في سوريا ولبنان وغزة .
لم تنجح الحكومات الأردنية المتعاقبة في تقليل التعرض للخطر الصهيوني (Vulnerability) بل زادت الطين بلة من خلال السياسات التي لا تصب أبداً في مصلحة الأردن على المدى الطويل ، ومنها؛

  1. الإعتماد على الديون الخارجية في إدارة الدولة مما أدى إلى إرتفاع مديونية الخزينة العامة إلى مستوى قياسي تجاوز نسبة 117% من الناتج المحلي الإجمالي وهو مؤشر خطير على إستقرار الدولة وقدرتها على المحافظة على إستقلالها وعلى القرار الوطني المستقل ويؤدي لرهن الدولة وتبعيتها المباشرة لقوى الإستكبار في العالم.
  2. ربط الإقتصاد الأردني بالإقتصاد الإسرائيلي بتوقيع إتفاقية الربط بالطاقة الكهربائية التي لا تحتاجها الأردن لوجود فائض نسبي حالياً ، وإتفاقية الغاز التي صوت مجلس النواب الأردني على كشفها وإلغاءها ولم تمتثل الحكومات للقرار بل إعتبرت الإتفاقية سرية ، ومؤخراً سيطرة الجيش الصهيوني على سد مياه في سوريا يأخذ منه الأردن جزءاً كبيراً من إحتياجاته المائية في دولة معروفة بالعطش المائي ، وبذلك تقبض الدولة الصهيونية على انفاس الشعب الأردني وتتحكم في مصيره عندما تحين الحاجة.
  3. ربط الجيش الأردني بالدعم الأمريكي الذي لا يمكن الوثوق به إطلاقاً من خلال التجارب العالمية التي أثبتت ذلك وأن الولايات المتحدة الأمريكية لا يهمها أي دولة في العالم عدا إسرائيل التي منحتها حرية التصرف المطلق في المنطقة .
  4. إهمال الدور الذي أن يمكن أن تلعبه الأردن من خلال موقعها الجيوستراتيجي حيث
    إكتفت بالشجب مقابل التصرفات الإسرائيلية وعنجهيتها التي لا تلق بالاً إلى أي رأي في العالم ولا حتى للدول العظمى الوازنة ، فعلى سبيل المثال تقوم دولة قطر بأدوار مفصلية على الصعيد الإقليمي ولا يمكن الأفتراض بأن قطر لديها قدرة دبلوماسية وبشرية أفضل من تلك التي يملكها الاردن، كما لا يمكن تحميل هذا النجاح للقدرة المالية لأن دور كهذا لا يحتاج الكثير من المال.
  5. عدم الإلتفات إلى أراء الجماهير لتحصين الجبهة الداخلية حيث ان ما يجري حالياً هو عكس ذلك تماماً بخلق تناقض وزيادة الهوة بين الشعب والدولة من خلال التضييق على الحريات العامة وإلغاء هامش الحريات الذي كان متاحاً للتعبير الجزئي عن الرأي الذي تمتع به الأردن خلال الخمسة عشر سنة الماضية ، فبدلاً من مشاركة فئات المجتمع المختلفة في الدفاع عن الدولة والوطن ضد الأطماع الصهيونية زاد الضغط على كل من يرفض ويقاوم الهيمنة والأطماع وإرتفعت نسبة الإعتقالات وطالت جميع فئات الشعب حتى اولئك المؤيدين المحسوبين على النظام في فترة ليست بعيدة.
    نحن لا ندعو إلى الفوضى ولا ندعو لنظام يناصب العداء لدول العالم ، ولكن بكل بساطة نأمل إعادة توجيه الدفة بهدف إستقلالية القرار الوطني والنظر إلى مصلحة الأردن قبل إتخاذ أي خطوة وأي قرار إقتصادياً وعسكرياً وإجتماعياً ، فلا يمكن فهم السبب وراء قبول الضغوط لعدم تعامل الأردن مع الصين لتنفيذ المشاريع الإستراتيجية مثلاً بينما تعمل الصين بكل حرية في إسرائيل بدون ضغوط ، وأن طريق الإصلاح هو القيام بعكس إتجاه النقاط الخمسة المذكورة أعلاه حيث لا يستطيع الفرد ولا الجماهير مجتمعة تغيير هذه الأسباب الخمسة إذا لم تبدأ الدولة أولاً في العمل وتقود هذا التغيير الذي سيحتاج الكثير من التضحيات من شعب يقف وراء قيادته ويمرر الإصلاح بشكل سلس لا يلفت إنتباه قوى الإستكبار العالمية .
    تقتضي طبائع الأمور أن يستعد الإنسان للبرد القارس والثلوج قبل فصل الشتاء الذي يمكن أن يغلق الطرقات ويعزل المجتمعات ويقتل الناس برداً إذا لم يجمعوا ما يلزمهم من حطب مقدماً ، ولا أقول ذلك نظرياً فإن تعاليمنا الدينية تنص على ذلك بقوله تعالى “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم” ، لا بل إن عدونا هو الذي يستعد ويخطط بشكل دائم محاولاً إبقاءنا تحت وهم إسمه “إسرائيل التي لا تقهر” وكذلك “إسرائيل التي تفعل ما تريد دون رادع” ، وغير ذلك ، ونبقى نحن في دائرة رد الفعل ، فعلى سبيل المثال إندلعت إضطرابات يافا عام 1921 من الميناء لدى إكتشاف صناديق أسلحة مهربة قادمة للمستعمرات وقع أحدها عند تفريغ السفينة وظهر ما به ، فهل كان الصهاينة يأملون في قيام دولتهم عام 1922 مثلاً أم يقومون بتهيئة أنفسهم لليوم الموعود الذي حصل بعد 27 سنة من ذلك التاريخ بعمل وتخطيط متواصل؟
    إذا كنا لا نتقيد بكلام الله عز وجل فلدينا عدواً يخطط على المدى الطويل ويمكننا أن نأخذ سلاح التخطيط منه ونستعمله ضده ونحن مستعدون لذلك كأفراد، ولكن متى نبدأ إذا لم نبدأ الآن؟ أننتظر هبوب العاصفة وتقطع السبل لنكتشف حينها أنه لن ينفعنا مال أو بنون؟ سؤال إستنكاري لا يحتاج إلى إجابة.
    زياد زكريا