كتب أ.عيسى قراقع:
في الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون الموت نهاية الألم، وراحة الجسد، وبداية الخلود، تقلب إسرائيل هذا المنطق الإنساني رأسًا على عقب، وتمارس فعلًا لا يشبه إلا الأساطير الظالمة والعهود البهيمية: احتجاز جثامين الشهداء، ودفنهم في ما يُسمى “مقابر الأرقام”، أو إبقاؤهم في برادات الثلاجات القاتلة للكرامة، كأنها تمارس عقوبة أبديّة على من فارق الحياة، أو كأنها تقول: “لن تنجو من الملاحقة، حتى لو متّ”، في هذه الفلسفة الإجرامية، لا تنتهي الجريمة بقتل الجسد، بل تبدأ فعليًا. هنا، لا تتعامل إسرائيل مع الشهداء كأموات، بل كـ”رموز متمردة” لا تزال تُهدد، حتى وهي هامدة، فالشهيد في الوعي الفلسطيني ليس جسدًا فقط، بل قصة، ذاكرة، وأرض تتنفس من دمه، ولهذا، يصبح الجسد ذاته ساحة معركة رمزية.
الاحتلال الاسرائيلي يحتجز 726 شهيدا في الثلاجات ومقبرة الارقام، من بينهم 67 طفلا و85 من شهداء الحركة الأسيرة و10 نساء، ولا يزال أكثر من 1500 شهيدا من قطع غزة تحتجزهم سلطات الاحتلال، منذ بدء حرب الإبادة في 7 اكتوبر 2023. حسب تقرير أصدرته الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء في شهر آب 2025.
لماذا تحتجز سلطات الاحتلال جثثًا لأطفال، فتيات، أسرى، وشباب؟ لماذا تحرم عائلة من لحظة وداع، من نظرة أخيرة، من شاهد قبر؟ في الأعراف الإنسانية، بعد الموت تنتهي الصراعات، ويتساوى الجميع في حفرة هادئة من تراب، لكن في فلسفة الاحتلال، الجثة نفسها تُعاقَب، لأن وجودها يُدين، يُذكّر، يُحرّض، وذكراهم تخلق فعل مقاومة بعدهم لدى الأجيال.
الجثامين المحتجزة تُستخدم كأوراق مساومة في المفاوضات، تُخزّن في الثلاجات لأعوام، أو تُدفن بأرقام لا أسماء، بلا كفن، بلا دعاء، او وسيلة للانتقام، ومع كل ذلك، تُرتكب جريمة مزدوجة: انتهاك حرمة الموتى، وخنق ذاكرة الأحياء.
لكن ما يجعل هذه السياسة أكثر ظلمة، هو الدافع الجنائي خلفها فإسرائيل لا تحتجز الجثامين فقط نكاية أو انتقامًا، بل لإخفاء الأدلة على جرائمها: الإعدامات الميدانية التي تُنفّذ بدم بارد، القتل خارج نطاق القضاء، برصاص مباشر على رأس متظاهر أو شاب أعزل، موت الأسرى في السجون نتيجة الإهمال الطبي أو التعذيب، الجثة هنا شاهدة. وكل دفن علني لها قد يكشف الكدمات، آثار التعذيب، الطلقات في الرأس أو القلب، لذلك، يُخطف الجسد، ويُخفى، وتُسرق العدالة قبل أن تبدأ.
في “مقابر الأرقام”، يُدفن الفلسطيني كأنه لا أحد، قبر بلا اسم، بلا تاريخ، بلا شاهد، لا يُزار، ولا يُرثى، تُحوَّل الجثة من إنسان إلى رقم ملف، وهذا التجريد هو أداة استعمارية خالصة: طمس الهوية، وقتل الرواية. وتحلل الجثة زمنيا، وطمر الذكرى والنسيان، الشهيد المرقّم لا يُبكيه أحد، لا يُذكر، لا يُشهر اسمه في النشرات، لكن الحقيقة؟ كل رقم منهم، هو حكاية مخفية، جريمة مدفونة، ونار تحت الرماد.
ما جرى في غزة في حرب الإبادة المستمرة ليس بعيدًا عن ذات المنهج، فمع القصف المستمر، والمجزرة المستمرة، لم يعد ممكنًا دفن الشهداء ، في غزة لايوجد ثلاجة أو مقبرة ارقام، في غزة تمحى الأجساد والأرواح على الهواء، آلاف دفنوا في مقابر جماعية:
جثامين طُمست تحت الركام.
أطفال تُركت أجسادهم في الطرقات
جثث تركت لنهش الكلاب
جثث مزقت وجمعت في اكياس
جثث هرست تحت جنازير الدبابات
جثث تلاشت وتحولت إلى غبار
جثث سرقت أعضاؤها ، واستخدمت للتجارة أو العلاج
وأحيانًا، لم يبق أحد ليدفن أحد.
حتى الموت لم يعُد له طقوس، غزة في لحظات، تحوّلت من مدينة إلى مقبرة، وبدل جنازات، كانت هناك جرافات، تدفن المئات معًا، بلا أسماء، بلا كفن، بلا وداع، وحين يكتب المؤرخون هولوكست غزة، يكتشفون أن العالم كله صار جثة، ولن يجدوا من يكتبون إليه.
شاهد العالم عشرات الجثث لأسرى قتلوا في معسكر سدي تيمان الدموي، تنقل في شاحنات وتخفى تحت الرمال، حين لا يكون هناك قبر، ولا جثمان، ولا حتى اسم مؤكد، فلا وداع، لا قهوة مرة، لا عزاء ولا صلاة ، لاترانيم كنائسية ولا ايات قرانية، اغتيال الرحمة وعدالة السماء، ما هذه الدولة المرتعبة، التي تطارد الشهيد حتى في المنهاج التربوي؟ وتخشى أن يكون اسما لشارع أو مدرسة، أو هتافا في نشيدة.
في الميثولوجيا القديمة، الروح التي لا تُدفن لا ترتاح، تبقى هائمة، تصرخ، تلاحق قاتلها، وفي فلسفة المقاومة، الأرواح تتحوّل إلى قنابل صامتة، إلى طاقة ثأر لا تموت، تحت التراب الفلسطيني، لا يرقد شهداء، هناك جمر، هناك نار مكتومة، وهناك أرواح تنتظر لحظة العودة إلى الحياة.
أرواح الشهداء، التي حُرمت من المقابر، لا تسكت، تسكن الهواء، ترعب العدو، تُحاصر الجندي في نومه، هي الثورة التي لا يراها أحد، لأنها بدأت من تحت الأرض، من تحت الركام، من تحت أرقام المقابر، من زنازين الموتى في ثلاجات الاحتلال، وحين يعجز العالم عن وقف الجريمة، تبدأ ثورة الأرواح.
الجندي الذي يطلق النار على رأس طفل، والذي يدفن جسد امرأة تحت الأنقاض، والذي يشارك في إعدام شاب أعزل، لا يخرج من المعركة كما دخل، ليس لأنه خسر معركة، بل لأن روح القتيل تسكن ذاكرته، كثير من الجنود الإسرائيليين – خاصة ممن خدموا في غزة – يعودون بذاكرة مُدمّرة: كوابيس ليلية لا تنتهي، شعور دائم بالملاحقة، نوبات قلق، انهيارات نفسية، اكتئاب، وحالات انتحار تزداد في صفوف من شاركوا في الحرب، الحرب ليست فقط عن من ماتوا، بل على من ظلوا احياء، وحملوا موتهم معهم إلى الأبد، وفي فلسطين كل الطرق تؤدي إلى مقابر، وفي فلسطين كل البيوت تعيش حالة حداد، وفي فلسطين المقابر تحت المستوطنات: التاريخ وعظام الأجداد. الشهيد الذي لم يُدفن، لا يختفي، بل يعود، لا بسلاح، بل بصورة، بصوت، بكابوس، برواية ، هو لعنة معلّقة، لا يرفعها شيء، ولا تمحوها سياسة الاخفاء.
احتجاز الجثامين ليس مجرد سياسة، هو اختصار دقيق لكل ما تفعله إسرائيل منذ النكبة: قتل الإنسان، ثم قتل اسمه، ثم دفن ذاكرته، لكن في فلسطين، الذاكرة لا تُدفن، حتى الجثث التي لم تُدفن، تحوّلت إلى قصائد، إلى صور، إلى أسماء معلّقة على الجدران، إلى مآذن تصرخ، إلى أولاد يحملون وجوه آبائهم، الشهداء يقودون المظاهرات، ويحررون الاحياء من صمتهم وموتهم السياسي.
الحرية للاحياء والشهداء، هذا ما دعا إليه الأسير الشهيد المفكر وليد دقة، في مسرحيته: الشهداء يعودون إلى رام الله،. ليقود وليد وسائر الشهداء انتفاضة شعارها: حرروا الاسرى الشهداء، حرروا الشهداء الاسرى، رافضا أن يتحول الشهداء إلى مجرد ايقونات أثرية منقرضة في المتاحف، وما زال وليد يدق على باب الثلاجة، وتصرخ جثته المحتجزة في شوارع رام الله.
في زمن الابادة، تتعرى الحرية، لتظهر هشاشتها: من يمارسها؟ من يدافع عنها؟ وعودة الشهيد هي اختبار اخير: اما ان يستفيق الناس على صدى صوته وذكراه، أو يغرقوا أكثر في مستنقع الخوف والذل، فعودة البطل ليست فقط ملحمية، بل وجودية.
سياسة احتجاز الجثامين لن تُخرس التاريخ، بل تُشعله، لأن القبر ليس نهاية، بل بداية حكاية لا تموت.
قد يحتجز الجسد، لكن الروح تعود عبر:
القصيدة التي تكتب باسمهم
الطفل الذي يكبر على صورهم
الاغنية، اللوحة، المسيرة، الحكاية ، وعندما تصبح الحرية ممارسة وقيمة.
هم يعودون، لا بالجسد، بل بالاثر.
الشهيد يعود، لأن الحرية لا تموت،وانما تنتظر من يتجرأ على حملها من جديد، ويبقى السؤال المطروح على الجميع: إذا عاد من مات لأجل الحرية، فهل أنتم احياء بما يكفي لتعيشوها؟