الضمير الواضح: كيف يرى الغرب المقاومة وما يجري في المنطقة
رندة السكسك
بين المفكرين والمحللين والضباط السابقين والدبلوماسيين والكتّاب في الغرب، ممن تجرؤوا على الوقوف إلى جانب فلسطين، لا مجال للَّبس أو الغموض في فهمهم للحقائق الأساسية التي ترسم مشهد الصراع في المنطقة اليوم. هؤلاء الذين نزعوا الغشاوة الدعائية عن أعينهم، يدركون تمامًا من هي القوى الفاعلة، وما هي طبيعة كل طرف. إنهم يعلمون ما تمثّله اليمن، وما تجسّده المقاومة في لبنان، وما الذي يحدث بوضوح في سوريا.
أما إيران، فينظرون إليها باعتبارها موطنًا للوضوح الأخلاقي، ومكانًا يتّسم بجدية فكرية وعمق حضاري، وأمة تضع السيادة والاستقلال في رأس أولوياتها. ليست مجرد دولة، بل القوة الإقليمية الأصيلة الوحيدة الباقية. ولذلك، فهي وحدها تحظى بالاحترام الحقيقي.
كما قال الدبلوماسي الأوروبي السابق أليستر كروك: “إيران لا تتحدّى الغرب بتصدير الثورة، بل بكونها نموذجًا للممانعة أمام الهيمنة الخارجية، وهذا وحده ما لا تحتمله واشنطن.”
أما حزب الله، فليس تنظيمًا عسكريًا عابرًا، ولا كيانًا طائفيًا محدود الأفق، بل فاعلًا ستراتيجيًّا عظيمًا.
قوة منضبطة ومبدئية أعادت تعريف مفهوم الردع والحرب في القرن الحادي والعشرين. وأمينه العام، السيد حسن نصر الله، ليس زعيمًا عابرًا، بل قائدًا استثنائيًا، نادرًا في مواقفه وحكمته. خُطبه تُحلَّل في مراكز الدراسات وتُدرَّس في المعاهد العسكرية. حتى بعض الضباط “الإسرائيليون” السابقون يُقِرّون بذكائه التكتيكي، رغم العداء.
أما اليمن، فهو البطل المنسي، والمفصل الاستراتيجي الذي غفل عنه الكثيرون. لم تعد اليمن هامشًا، بل باتت مركزًا في معادلة البحر الأحمر. كل حركة في هذا المضيق تمر عبر إرادة اليمنيين، هم اليوم من يقرّر من يمرّ ومن يُمنع. إنهم السيّد الحقيقي للبحر، وللمرة الأولى منذ عقود، تُعاد كتابة معادلة القوة البحرية من الجنوب العالمي.
هذه الرؤية ليست محلَّ إجماعٍ كاملٍ، لكنها مفهومة على نطاق واسع لدى من يملكون الحد الأدنى من النزاهة الفكرية. قد يختلف المحللون على مدى تأثير كل طرف، لكن لا خلاف حول البنية الأساسية للمشهد. والأهم من ذلك، أنه لا أحد ممن يفهم السياسة بجدية يعتقد أن ما يقوم به محمد بن سلمان أمر عبقري. ولا أحد يرى في عبد الفتاح السيسي حاميًا لمصلحة مصر. هذه الأنظمة مكشوفة؛ مُفرغة من الداخل، وتخدم مصالح غيرها. لقد تم تطويق مصر بالديون، والانهيار الاستراتيجي، والتبعية.
أما الجيش المصري والجيش الأردني، فيُنظر إليهما بوصفهما الهدف المقبل في مشروع الصهيونية. والإمارات ليست دولة، بل شركة تُصفّي ما تبقى من جسد العالم العربي.
لا أحد يملك البصيرة يُخدَع. فالصورة واضحة، مدعومة بالوقائع، وبالذاكرة التاريخية، وبالضمير الإنساني.
ومن هنا، فإن كل من تحرّر من الأوهام الطائفية والمصالح الضيقة يرى الحقيقة كما هي: ما يحدث في غزة هو جريمة تاريخية. الصهيونية لم تعد مشروع استعمار فقط، بل منظومة فصل عنصري، وإبادة ممنهجة، وتجريد شعب كامل من إنسانيته. أما النخبة الحاكمة في أمريكا، المتحالفة معها، فتسلك سلوك المافيا في خريف الهيمنة. والأنظمة العربية شريكة في الجريمة، صمتها خيانة، ودعايتها سُمٌّ زُعاف.
وكما كتب “سمير قصير” قبل أن يُغتال من أجل كلمته: “العلّة العربية هي نتيجة القمع، والهيمنة الخارجية، والفشل الذاتي في التمسك بالكرامة.”
فكيف، بعد كل هذا، لا يزال البعض يرى في إيران عدوًّا؟ كيف لا يزال حزب الله يُوصَف بالتهديد؟ كيف يمكن لمن شهد ما جرى أن يعتبر حماس مجرّد مقامرين؟ بل كيف يمكن لأي عاقل أن ينظر إلى الجولاني قاطع الرؤوس على أنه “خيار وطني”؟
إنها مئة عام من الترويض. قرنٌ كامل من التسميم التدريجي للعقل الجمعي. إعادة تعريف الإسلام والعروبة لتصبحا مرادفين للطاعة والخنوع. حتى حينما يصرخ الفلسطيني من تحت الركام، حينما يُحاصَر ويُقصَف ويُحرَق، يُتَّهَم بأنه جلب ذلك على نفسه. وكأن الحصار، والتجويع، والتهجير، والقنابل هي من صُنعه!
هذا هو الغسيل الكامل للعقول. حتى من لا مصلحة له في الطغيان، بات يُردّد دعاية الطغاة. يتحدّث عن المقاومة وكأنها “أذرع”، عن الشعوب وكأنها “مشروع إيراني”، وعن الكفاح وكأنه “مغامرة غير محسوبة”. فأين قيم الأخوّة العربية؟ أين التضامن الإسلامي؟ أين موقف المسيحي الذي يرفض الظلم، ويقول كلمة الحق مهما كلّف الأمر؟
أين الأطباء، والحقوقيون، والشعراء، والكتّاب، والنقابيون، والمثقفون؟ هؤلاء الذين أقسموا أن يكونوا أمناء على القيم. كيف يصمتون أمام مشهد رفح؟ أمام مستشفيات مدمّرة؟ أمام مقابر جماعية لأطفال لا يعرفون حتى معنى الحرب؟
لكنهم لن يصمتوا.
وكما قال إدوارد سعيد: “كل إمبراطورية، مهما كانت قوتها، لا بد أن تواجه الشهود من الشعراء، والمؤرخين، ومن يقولون الحقيقة.”
واليوم، الحقيقة لا تحتاج إلى تعقيد. إنها واضحة. غزة هي خط التماس الأخلاقي لهذا العصر. ومن لا يزال يطالب بـ”الحياد” أو “التوازن” بعد كل هذا، فهو اختار بوعيٍ أن يكون في صف الجلاد ضد الضحية.
والتاريخ سيسجّل كل شيء.