كيفك أنت يا زياد؟
كيف حال عقلك في زمنٍ يتقن العبث ويخشى من المعنى؟
كيف لبنانك الداخلي؟ ألا يزال يشعر بالاغتراب، ويسقط في معادلة الجدوى؟
أتَعلم؟ الفيلم الأميركي الطويل صار أطول.
تبدّلت الوجوه، غرقت في “الحداثة المحدّثة”، لكنها ما زالت تستخدم ذات السيناريو، بأكاذيب أكثر فجاجة.
زياد… لقد دخلت أرواحنا من تساؤل الإنسان فينا إلى جوهر الحبّ والأرض.
كنّا نعرفك قبل أن نراك: من آيات الصباح في صوت فيروز، ومن مجد الكلمات واللحن على لسانَي عاصي ومنصور.
لكنّك كنت الاستثناء الرحباني الأخير…
الثائر على المألوف والنمطية، الناقد في محراب المعنى، والمتهكم من تقديس اللغة حين تفقد هدفها.
غنّيناك “بلا ولا شي”، فكنت كل شيء، لأنك أدركت أن إيقاع الصمت ينبض بسرعة الوعي ليستقيم الوزن على الرفض.
كيفك يا ابن الكرامة؟
لا يزال أرز لبنانك يعانق زيتون البلاد، ويكتبون في قاموس المقاومة عن شعبٍ عنيد ثائر لا يرتضي الظلم.
مع أن كل “شيءٍ فاشل” عربيًا… لم تملّ من الصراخ بأن الحرية بمعناها الأول انقلاب على النفس،
وأن المعركة لا تُخاض فقط ضد عدو خارجي، بل ضد الركون، والجهل، والتبعية، والخيبة المزمنة.
وحين صرخت من بيروت… سُمع صداك في غزة.
غزة؟ هل أوجعتك كما قتلتنا؟
تموت جوعًا، ووجعًا، وقهرًا، والبلاد العربية تنتظر المعجزة، تُجيد إحصاء الشهداء، وتبحث عن تبريرٍ بلسان الله.
أما أنت… فلم تكن كافرًا يا زياد.
كنت الوحيد الذي لم يُجمّل الحقيقة، بل الوحيد الذي أطلق شعوره بدون قيد، ليسبَّ ويشتم ويلعن بلساننا كلنا.
أتدري ما أجمل ما فيك؟
أنك منا… تشبهنا لحدّ اللامعقول.
نجد أنفسنا في روحك القريبة من الفقراء، وفي كلماتك التي تحاكي “المعترين” بلا زخرفة، ولا كناية، ولا مجاز.
يا ماركسيًّا برؤية نقدية، وشيوعيًّا بطعم الحياة،
ما زلنا هنا نُغني للطائفية، نبايع المؤامرة، ونبحث عن أمة في جيب زعيم.
الطبقة سيدة الأحكام، والمال الوالي والفقيه، والحرية مشعوذة عجوز تترنح سكرى بنخب عدالة المستقبل.
ننتظر التغيير بدعاء سحري، لأننا لا نزال نجهل غاية الثورة.
ضائعين بالأيديولوجيا، نملك الوعي دون بوصلة.
اليسار يمين، واليمين يسار، والوسط يبتلع كل الأجوبة…
أما “نُزُل السرور” — الوطن العربي الكبير —
فقد صار فندقًا تديره حفنة من السارقين الخونة،
يسكنه الجوعى البؤساء، ويُحسَب عليهم الأمل ضريبة كبرى.
الحرب بدأت.
والثورة؟ ليست حدثًا، بل مزاجٌ طويل النفس، ومقاومة تؤرّق الضمير… ولا توقظه.
و”بالنسبة لبكرا شو؟”
سؤال صار نكتة، لأننا — كما قلت — “عرفنا شو بيطلع من الأمل”.
لكن، رغم كل البؤس، نقولها بصوتك:
“إيييه، في أمل”.
في الأمل عناد، تمرّد، نكاية في اليأس.
ربما لن ننتصر الآن… لكننا نشعل المعنى،
نقاوم المشهد المتكرر، وبتنا أكثر واقعية.
حبًا بالقوة… وقوةً بالحب، نعيد تأطير الوعي بلحمنا، وعظامنا، وبعض النظريات والكتب.
رحلت في “السهرية”،
ونحن نحاكم أسباب الحروب الكبرى،
نترنّح بين مذابح اللوم، ونسكب قدح الرؤى في وجه الاستعمار.
أرأيت احتفالًا أشد غرابة من ثوري يسقط في فكرة ويرثيها كما البندقية؟
وداعًا يا من علّمتنا أن السخرية ضرورة في أتون هذه الحياة الطاحنة.
وداعًا يا صوت الفقراء والمهمشين، أصحاب الهمم العالية والحزن العميق.
يا من علمتنا أن في نهاية الأمر لا يصحّ إلا الصحيح،
في منطق العدالة… وتعاليم الإرادة.
وداعًا يا زياد، يا سيّد الكلمة الحرة.
وإلى اللقاء… في سماء لا تُباع ولا تُشترى.
